يكتبها : حبيب عيسى
(1)
باختصار شديد ، نقول أن الصراعات في الوطن العربي ليست ذات عناصر بسيطة محددة المعالم واضحة من حيث المنشأ والمآل ، وإنما عناصرها متداخلة هجينة المنشأ ناتجة عن تزاوج عناصر داخلية بعناصر خارجية يتداخل فيها التوافق بالتنافر ، وبالتالي لا يمكن تبسيطها حتى تنطبق عليها القاعدة القائلة " عدو عدوي صديقي" ، فنحن الآن في مواجهة صراعات ، ومشاريع ، وفتن ، واقتتال ، قد يكون جميع الأطراف فيها أعداء لمشروع الأمة العربية النهضوي التحرري ، وفي الوقت ذاته يتصارعون فيما بين بعضهم البعض بوحشية لا حدود لها ، فالأطراف الفاعلة على السطح العربي ، محلية ودولية وإقليمية ، في ظل انحسار المشروع القومي العربي التحرري النهضوي ، إما معادية علماً وفعلاً – حالة القوى الخارجية على تنوعها - ، وإما معادية جهلاً وفعلاً – حالة القوى المحلية على تنوعها - ، للمشروع النهضوي التحرري العربي , وإنها مع الاختلافات النسبية بينها ، إلا أنها مجتمعة تتصارع على حجم نصيبها في الوطن العربي ، وتحمل مشاريع هذا التحاصص الإقليمي ، أو الطائفي ، أو المذهبي ، أو الأثني ، أو القبلي ، أو النفطي ، أو الدولي ، كل ذلك في إطار تبعية الأطراف العربية المتصارعة على تنوعها لقوى الهيمنة الدولية ، وهي جميعها "أرادت هذا أو كرهت" ترسم هذه الصورة القاتمة الراهنة لواقع الأمة العربية ، التي لابد للعرب العرب ، الذين يهمهم الأمر ، من اعتناق أفكار مغايرة ، وممارسة أفعال مغايرة ، لتغيير هذه المعادلة المظلمة والظالمة .
عنوان آخر استخدم لتبرير العديد من المواقف ، والمشاريع في الوطن العربي يقول العنوان : لابد أن نحصد نتيجة الأفعال التي تحصل ، لابد من نتيجة نحققها من جراء حرب أكتوبر "تشرين الأول" ، مثلاً ، لابد من نتيجة لانتفاضة الحجارة في فلسطين ، لابد من نتيجة لمقاومة 2006 في لبنان ...؟!، حتى لا تضيع الحروب ، والانتفاضات ، والمقاومات هدراً ، والعنوان صحيح بجوهره ، غير منكور من أحد ، فمن العبث أن يقوم فرد ، أو جماعة ، أو دولة ، أو مؤسسة ، أو مقاومة ، بفعل ، ما ، بحرب ، بمقاومة ، دون استهداف نتيجة من جراء هذا الفعل . لكن حتى يصّح ذلك لا بد من تحقيق شروط بالفعل المقصود ، وشروط أخرى بالنتيجة المطلوب تحقيقها ، ومن ثم الترابط بينهما ، فهل كامب ديفد أوفصل القوات نتيجة عادلة لحرب تشرين الأول "أكتوبر" ؟ ، وهل "أوسلو" نتيجة عادلة للمقاومة والانتفاضة في فلسطين ؟ ، وهل قرار 1701 الدولي واستقدام 15000 جندي أجنبي إلى جنوب لبنان لحراسة مستوطنات الصهاينة في فلسطين نتيجة عادلة لصمود المقاومة في جنوب لبنان ؟ ، وهل ؟؟؟.
( 2 )
هكذا ، إذا لم يتم تحقيق الشروط للربط الإيجابي بين الفعل والنتيجة قد نحصل على نتائج معاكسة ، ولعل من أهم هذه الشروط أن تكون النتيجة المتوخاة متناسبة مع الهدف الذي من أجله تم تنفيذ الفعل ، وأن يكون تحقيق هذا الهدف متوقفاً على وقوع الفعل ، وأن يكون تحقيقه غير ممكن إلا بتنفيذ الفعل الذي حدث ، فإذا كانت تلك النتيجة متاحة بدون الفعل ، فإن هذا يعني أن الجهود والدماء التي بذلت في الفعل تكون قد ضاعت هدراً ....، فكيف إذا كانت النتيجة التي تم التوصل إليها تتناقض مع الهدف المعلن للفعل في الأساس ...؟؟ .
في الوطن العربي استخدمت الكثير من الأفعال الإيجابية لتحقيق تنازلات سلبية ، ونتائج مناقضة ومتناقضة ، والأمثلة على ذلك لا تحصى . والتبرير كان يأتي دائماً من منطلق ضرورة الوصول إلى نتيجة , وخلال الوصول إلى النتيجة تبدأ المساومات ، وبدلاً من تصليب المواقف استثماراً للفعل ، والوقوف عند مطالب تتناسب ، والفعل ...، تبدأ التنازلات خطوة ، خطوة , ويتم تحديد الخيار ، لاختيار أحد موقفين ، إما تقديم التنازلات ، وإما لا نتيجة .... إلى أن يصلوا في النهاية إلى "نتيجة" لا علاقة لها بالفعل الذي حصل ، وبالدماء التي بُذلت ، بل غالباً تنتهي بتنازلات أقل ما يمكن أن يقال فيها ، أنه كان من الممكن الحصول على نتائج أفضل منها بدون الحروب ، والمقاومات ، والفعل ، والدماء ، ذلك أن المعروض رسمياً من الطرف المعادي قبل تلك الأفعال والتضحيات كان أكثر بكثير من الصفقات التي عقدوها نتيجة معارك وتضحيات ومقاومات ... .
( 3 )
المثال الصارخ على ذلك حرب "أكتوبر" تشرين أول ، نذكرها على سبيل المثال ، لا على سبيل الحصر ، لنقيس عليها بعد ذلك....
في السادس من "أكتوبر" تشرين الأول 1973 ، انطلق الجيش العربي في مصر ، والجيش العربي في سورية باتجاه أراضي "دولة مصر" المحتلة ، وأراضي "دولة سورية" المحتلة من قبل "دولة إسرائيل" ، والهدف لم يكن تحرير فلسطين العربية ، بل كان محدداً بتحرير أراضي "الدولتين" تحت شعار "إزالة آثار عدوان 1967" دون تقديم تنازلات "لدولة إسرائيل" بما يتعلق بفلسطين ، ذلك أن السلطة في الدولتين كانت قد رفعت شعار إزالة آثار عدوان 1967 ، أي العودة إلى خطوط هدنة 1948 لا أكثر من ذلك بينما كانت "دولة المستوطنات الصهيونية" تشترط للانسحاب إجراء مفاوضات واعتراف متبادل وتطبيع علاقات ، إذن فغن الهدف المعلن من الحرب كان تحقيق الانسحاب على حدود 67 دون الصلح والاعتراف والتفاوض والتطبيع لا أكثر .
( 4 )
والفعل الذي هو "الحرب" ، هنا ، كان لابد منه لتحقيق هذا الهدف تحديداً لأن المشاريع الصهيونية ، والدولية المعروضة على كل من سورية ومصر ، حتى ذلك الوقت كانت تتضمن مقايضة انسحاب "جيش دولة إسرائيل" من أراضي "الدولتين" ، بشروط محددة منها : اعتراف الدولتين "بدولة إسرائيل" ، والتطبيع معها ، والتعامل معها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياحياً وسياسياً ، باختصار ، المطلوب وفق تلك المشاريع أن تعلقّ الدولتان انحيازهما في الصراع الدائر خارج حدود دولتيهما الإقليميتين بين الشعب العربي الفلسطيني ، وبين "دولة إسرائيل" ، والإعلان جهاراً ، نهاراً ، أن فلسطين ، أو بعضها على الأقل ، هي "دولة إسرائيل" ، وأن تلك الفلسطين ، أو بعضها ، ليست من الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني.
وبما أن السلطتين في الدولتين "سورية ومصر" رفضتا المقايضة ، وقررتا تحرير أراضي الدولتين المحتلة من قبل "دولة إسرائيل" دون شروط تتعلق بفلسطين ، كان لابد من فعل الحرب لتحقيق هذه النتيجة.
( 5 )
وحصل فعل الحرب في الواقع ، لكن ماذا كانت النتيجة التي ُنسبت في النهاية إلى حرب أكتوبر "تشرين الأول" ؟؟ .
لنتتبع الطريق إلى النتيجة خطوة ، خطوة ، وكيف اسُتخدمت كل خطوة لتبرير الخطوة التالية ، تراجعاً حتى عن ما كان معروضاً قبل فعل الحرب .
قالوا بعد وقف إطلاق النار 1973، أولاً ، لابد من التفاوض المباشر ، فجميع الحروب تنتهي بالتفاوض ، ولنبدأ بالعسكر :
إذن لابد من الاجتماع العلني بين العسكر من الطرفين لفصل القوات حتى يتم البحث في الوصول إلى النتيجة ، بهدوء. وحصل . وعلى العرب أن يعتادوا على المشهد ، مشهد أعلام الدول الإقليمية ، وعلم "دولة إسرائيل" على طاولة واحدة ، وقد اعتادوا ...
• ثم لابد من اتفاقية للفصل بين القوات تحصل بين الأطراف ويحميها العالم ممثلاً بالأمم المتحدة ، والجيوش الدولية ، وحصل ، "اتفاقية الفصل في سيناء,اتفاقية الفصل في الجولان".
• "دولة إسرائيل" غير مستعدة لتقديم "تنازلات" أخرى إلا بإنهاء حالة الحرب وتحديد أراضي مجردة من السلاح ، وحصل ، المناطق أ و ب و ج من دمشق إلى الجولان ، ومن القاهرة إلى سيناء ، وتوجت المرحلة "اتفاقية سيناء الثانية" المذلة .
• "دولة إسرائيل" لم تعد تستطيع تقديم تنازلات أخرى ، وعلى الرئيس السادات ، إما أن يعلن فشل مشروع السلام ، أو الذهاب إلى "إسرائيل" ، واختار سيادته الذهاب , فمن غير المعقول أن يعلن فشل مشروعه ؟ !.
• على منبر "الكنيسيت الإسرائيلي" أعلن الرئيس السادات "مشروعه للسلام" مع "دولة إسرائيل" ، وعرض حسن الجوار ، وقدّم رجاء بالانسحاب من سيناء ، والأرض العربية المحتلة الأخرى ، باستثناء الأرض التي تقوم عليها "دولة إسرائيل" حتى عام 1967 ، فهذه "لم تعد عربية" من وجهة نظر سيادته .... ورفضت "إسرائيل" الانسحاب من سيناء ، وكان على سيادته أن يعلن استقالته كما وعد ، أو أن يقدم تنازلات أخرى ، ومرة أخرى اختار سيادته الحل الثاني.
• أصبح الرئيس أنور السادات نجماً عالمياً ، وأعلن الرئيس جيمي كارتر رئيس دولة الولايات المتحدة الأمريكية في الإسكندرية ، أنه يخشى على منصبه من شعبية الرئيس السادات في أمريكا وحمد الله أن السادات ليس أمريكياً ، وإلا لما كان له "كارتر" حظ في الرئاسة ، ثم بعد ذلك استدعي سيادة الرئيس السادات إلى منتجع كامب ديفيد لتوقيع الصفقة بتسوية الأمور بين مصر و"إسرائيل" ، وكان على سيادته ، إما أن يوقع على الصفقة ، ويعلن لا حرب مع "إسرائيل" بعد الآن ، أو يعلن فشل مبادرته ، واختار سيادته التوقيع والإعلان . ونحن نقول أن تلك الصفقة كانت قرار إسرائيلي – أمريكي ، ولا نقول "اتفاقية كامب ديفيد" الثلاثية ، لأن أي قراءة متأنية لما سمي "اتفاقية كامب ديفيد" توضّح أن النص من حيث الصياغة ، والإسناد ، والنتيجة يخدم طرفاً وحيداً هو دولة "إسرائيل" التي نقلت علمها من أقصى سيناء في الشرق ، إلى قلب القاهرة يرفرف فوق سفارتها ، ثم أعلنت "دولة إسرائيل" التي يجب مراعاتها لأنها "دولة ديمقراطية" أو "دولة مؤسسات" بأن ما قدمته في "كامب ديفد" كان تنازلاً ، وأنها لن تعود لمثل ذلك ، فكما أعلن الرئيس السادات أن حرب اكتوبر كانت آخر الحروب ، فإن انسحابها من سيناء هو آخر الانسحابات .
( 6 )
فهل يمكن ، بأي حال من الأحوال ، اعتبار "معاهدة كامب ديفيد" و"اتفاقية فصل القوات" هي المعادل لدماء الشهداء في حرب "أكتوبر" تشرين الأول في كل من مصر وسورية..؟ ، وهل يمكن اعتبار هذه النتيجة هي الغاية التي كان يتوخاها الشهداء ؟ .
إن أي مهتم يستطيع دون عناء أن يرجع إلى ما قبل 6أكتوبر "تشرين أول" 1973 ، ليقرأ مشاريع رسمية عرضها المسئولين الصهاينة في "دولة إسرائيل" على مختلف مستوياتهم ، واتجاهاتهم ، تعرض على "الدول المجاورة" أكثر بكثير من عقد الإذعان الذي وقعه السادات في "كامب ديفيد" ، ومن "فصل القوات" ... فلماذا كان فعل الحرب ، إذن....؟!! ، ولماذا دماء الشهداء ؟؟
ثم إلى الذين يريدون التعلم مما جرى نقول : فقط ، قارنوا في المواقف ، وتساءلوا لماذا؟؟؟
قارنوا بين مشروع الرئيس السادات عشية حرب أكتوبر ، وبين مشروعه على منبر الكنيسيت ، وبين "اتفاقية الكامب" ، وتساءلوا ، فقط مجرد تساؤل ، لماذا حصل كل هذا التنازل ، وكيف؟؟؟
المهم , أليس من المعيب بعد ذلك كله أن ننسب معاهدة "كامب ديفيد" كنتيجة لحرب أكتوبر ... هل يكفي هذا كمقياس؟ ، وهل يجرؤ أحد على اعتبار "أوسلو" نتيجة لتضحيات أطفال إنتفاضة الحجارة في فلسطين العربية وحجة تبريرية بأنه كان لابد منها حتى لا تذهب دماء الانتفاضة هدراً..؟ ، هل نتابع النتائج المخذية التي تم تركيبها على البطولات والتضحيات المشرّفة ...؟؟؟!!! .
باختصار شديد ، نقول أننا فجعنا خلال العقود القليلة الماضية بكثير من الأفعال والجهود والنضالات والتضحيات والمقاومات التي التفت حولها الجماهير العربية ، بل وصنعتها الجماهير العربية في أغلب الأحيان ، وقدمت الأمة العربية في سبيل تحقيقها أغلى التضحيات وأعز الشهداء وأهدرت في سبيلها دماءً غزيرة ، وإمكانيات هائلة ، ثم كانت المحصلة كارثة على الصعد كافةً ، فهل يكفي ما حدث لوضع حد للتضليل؟ .
( 7 )
التبرير بالمستقبل : عندما تسقط الحجج التبريرية السالفة بأي حوار جاد يتم اللجوء لما يمكن أن يحدث في المستقبل ، لتبرير موقف ُمخذ راهن .
يقولون: دعونا الآن نفعل ما نقدر عليه ، وما تسمح به الظروف الموضوعية ، وغداً ، أو بعد غد ، ستكون الجماهير العربية قادرة على أن تمحو ما تريد ، وتصنع ما تريد ، وتحرق الصكوك التي لا تريد .
لاشك أن العرب العرب يستمدون المقدرة على تحمل المصائب التي تنزل على رؤوسهم هذه الأيام من تلك المقولة ، ومن ثقتهم الإستراتيجية بالمستقبل ، وبمقدرة الجماهير العربية على أن تفرز "طليعة عربية" تحقق مشروع التحرير والنهوض والتنوير ، ويبحثون لأنفسهم ، ولأولادهم ، وللأجيال العربية القادمة عن دور في هذه المهمة التاريخية ، لكن أن يتم استخدام هذا الحلم , الأمل ، وتحويله إلى وسيلة مضللة لتبرير أفعال ، ومساومات ، وتنازلات راهنة مخذية ، فهذا ما يجب أن يتم وضع حد نهائي له .
إن الحد الأدنى من الجدية يقتضي التأكيد على المبادئ الأساسية لتقييم أي موقف سياسي ، أو غير سياسي ، فالموقف يكون صحيحاً ، أو غير صحيح ، لا بقدرة الأجيال القادمة على تغييره ، أو إلغائه ، وإنما بتحديد المعايير الذاتية ، والموضوعية لهذا الموقف . والمعيار الأساسي الذي يحسم المسألة ، هو : لمصلحة من هذا الموقف..؟ ، هل يخدم الهدف الإستراتيجي ، أو حتى المرحلي ، أم يخدم الخصم ؟ ، وعلى هذا الأساس يمكن تقييمه سلباً ، أو إيجاباً..
( 8 )
وفي الوطن العربي ، في ظل ظروف بالغة التعقيد وجدنا أنفسنا أمام مواقف وأفعال كثيرة تندرج ، في ظل أي تقييم جاد علمي ، تحت عنوان مواقف وأفعال معادية لأي هدف استراتيجي ، أو مرحلي للأمة العربية ، وأن المكان الحقيقي لتلك المواقف والأفعال ، هو ، في استراتيجية القوى المعادية . ويستطيع أي متتبع أن يجد في الإستراتيجيات المعادية ما يتطلب مثل هذا الموقف ، وذلك الفعل.
إن الأجيال العربية القادمة إذا تجاوزت الأمراض التي عانى ، ويعاني منها جيلنا ستمحوا ، وتغيّر ، وتحرق ما يجب محوه ، وتغييره ، وحرقه . لكن لا يحق ، بأي حال من الأحوال ، للذين ينفذوّن هذه الأفعال ، والمواقف السلبية ، من أبناء جيلنا ، أن ينكروا للحظة واحدة أنهم يورثوّن تلك الأجيال القادمة بمواقفهم هذه ، وأفعالهم تلك ، أعباء إضافية , وأنهم ، سواء كانوا يدرون ، أو لا يدرون أضافوا إلى الأعباء الجسيمة ، أعباء جديدة ، وراكموا المواقف والأفعال المعادية ، وبالتالي ، فإنهم في ظل أي تقييم علمي وموضوعي ، وبعيداً عن العواطف ، ينتسبون هم ، وأفعالهم إلى المشروع المعادي للوجود القومي العربي النهضوي التنويري . فهل يكفي ما حدث حتى الآن لوضع حد للتضليل ؟ .
( 9 )
وأخيراً ، فإننا نعرض لأسلوب تبريري ذو طبيعة هجومية ، يقول: (عجيب أمر هؤلاء العرب القوميون يتحدثون عن الإستراتيجية ، وأفعال إستراتيجية ، وهم عاجزون عن اتخاذ مواقف ، أو تنفيذ أفعال ، لا إستراتيجية ، ولا حتى مرحلية . وهم عوضاً من أن يداروا أنفسهم خجلاً من هذا العجز ، والفشل ، ويحاولون تداركه اتجهوا إلى تبرير عجزهم ، وتخاذلهم بالتهجم على كل من يعمل ويناضل في الوطن العربي ، يكفروّن الجميع ، ويهاجمون الجميع ، ولا يعجبهم العجب العجاب ، وهم التبريريون ، في حقيقة الأمر ، ينطبق عليهم القول الشعبي : "لا يعملون ولا يتركون الآخرين يعملون" ، ويتابعون :
هل استطاع القوميون توحيد الأمة العربية ، ونحن رفضنا؟؟
هل حررتم فلسطين من البحر إلى النهر ، ورفضنا؟؟
هل أقمتم نظام العدالة الاجتماعية ، ورفضنا؟؟
هل أقمتم دولة العرب الديمقراطية ، ورفضنا...؟
هل ، وهل ....وهل...؟ ، ثم يتابعون : أنتم أيها القوميون من رفع الأهداف القومية والتحررية والاشتراكية والديمقراطية والتوحيدية ، وأنتم من نكص عنها ، واتجهتم إلى تبرير نكوصكم ، ولا نقول هزائمكم ، بشتى أنواع التبرير ، أنتم من أقام النظم الشمولية والاستبدادية والقمعية تحت مظلة صخبكم عن الحرية ، وأنتم من رسّخ الإقليمية والصراع الإقليمي ، بل أنتم من انحدر إلى تفتيت المُفتت ، وإلى فتن ما قبل المواطنة حتى في الأجزاء ، تحت شعاراتكم الصاخبة عن الوحدة العربية ، وأنتم من أنتج المافيات والفساد والنهب تغلفون ذلك بالصراخ عن حقوق العمال والفلاحين وترفعون شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ، هل هناك حاجة لتذكيركم بما فعلتم بالمجتمعات التي تحكمتم بها ؟ ، بل هل هناك حاجة لتذكيركم بما فعلتم ببعضكم بعضاً حتى داخل التيار القومي العربي ذاته ؟ .
"وإذا كنتم أيها القوميون العرب لم تفعلوا إلا عكس الأهداف التي ادعيتم رفعها ، وكانت نتائج سائر أفعالكم تصب في المقلب الآخر الذي أبعد الأمة العربية عن التحرر والتوحيد والعدالة الاجتماعية والتنمية والنهوض والتنوير ، فهل تكفوّا أيها القوميون عن التشويش على الذين يعملون ، وتوفرون النصائح ، والتشدق بالأهداف الكبيرة ، والرفض ، والشعارات ... وإلى آخره ، لأنفسكم .. ويتابعون : هذا ما استطعناه نحن ، فإذا كنتم تستطيعون تحقيق أفضل من ذلك تفضلوا إلى الساحة ، لنصّدق أن هناك علاقة إيجابية بينكم ، وبين ما تقولون ، إن المأزق الذي تعيشون هو من صنع أيديكم ، فأنتم أولى بالدعوة للكف عن التبرير ... ).
( 10 )
بدون مواربة ، وبدون تبرير ، وبدون إنكار ، نقول إن المشروع القومي العربي التحرري والنهضوي ما كان في الموقع الذي هو فيه الآن لولا الأخطاء والخطايا التي ارتكبت باسمه ، والرواد القوميون الجدد مطالبون بالمراجعة لا بالتبرير ، لقد قال الشاعر العربي يوماً : " إذا مررت بإختها فحد " ، وهم الآن ، بالضبط الآن ، عليهم أن يحيدوا عن المثالب والأخطاء والأساليب والخطايا التي أودت بإسلافهم إلى ما هم عليه ، لهذا ، فنحن لن نرد على الذين يتهجمون على المشروع القومي العربي بتبرير ما اقترفه السفهاء منا ، بما اقترفه ومازال يقترفه السفهاء منهم ، وإنما سنرد بتصويب المسار القومي إلى الغائية القومية العربية التقدمية ، منهجاً وأسلوباً وحركة وسلوكاً وصدقاً ومرؤوة وشهامة وشجاعة وأنسنة وعدالة ومساواة وتأدية للواجبات قبل المطالبة بالحقوق ، بالقطع مع الفردية والأنانية والاحتكام إلى المؤسسات القومية والمجتمعية ، والالتزام بالمواثيق والعقود التي تقرها الجماعة ، والولاء والانتماء للوطن والأمة بحيث تمر سائر الانتماءات الأخرى عبر هذا الولاء والانتماء ، نقول ذلك من مواقع الحصار ، لكننا سنقوننه في مواقع الانتصار ، حرية الإنسان أولاً ,وحريته أخيراً ، فليس هناك قضية مهما كانت تبرر انتهاك حقوق الإنسان أو وضع القيود على حركته أو الحد من حقه في التعبير أو استغلاله ، نقول ذلك ، ونحن نقرّ أن المشروع القومي العربي النهضوي التحرري منحسر فعلاً ، ومحاصر ، وعاجز آنياً عن مواجهة المشاريع المعادية ، والقوى المناقضة له تسيطر على الواقع العربي موضوعياً ، وتتخذ المواقف ، وتحرك الأحداث باتجاهات معاكسة لما يستهدف , وتصنع هذا الواقع الذي نحيا , كل هذا صحيح ، وغير منكور من أحد ، ولم يعد ُيجدي القوميون العرب التقدميون تبرير ذلك ، بمؤامرات الإمبريالية والصهيونية والرجعية والقوى المضادة ، فالذي مكنّ القوى المضادة من هزيمة القوميين ومشروعهم النهضوي هو القصور الذاتي للقوميين أنفسهم ، وممارساتهم المعاكسة لأهدافهم ، وبالتالي عليهم الانتقال من التبرير إلى المراجعة ، فلهذا القصور والانحسار والهزائم أسباباً ذاتية خاصة ببنية المشروع القومي العربي التقدمي ومنهجه وأساليبه ، والمشكلة التي تنتظر الحلول كامنة في بنية المشروع القومي العربي التقدمي ، أما القوى المضادة ، فمن حقها أن تسعى لتحقيق مشاريعها المعادية للأمة العربية ، وأن تستغل الثغرات في المشروع القومي التقدمي ...
البداية ، إذن ، تكون بأن يكفّ القوميون العرب التقدميون الجدد عن التبرير ، وأن يقطعوا مع الأساليب والنهج الذي أودى بهم ، وبالأمة العربية إلى الدرك الذي نحن فيه جميعاً ، هكذا تصبح المراجعة فعل إيجابي يؤسس لمصير عربي تستحقه أمة الحضارات ، وليس مجرد بكاء على الأطلال ...
نقول ذلك ، ونحن ندرك أن الكثيرين من الذين يتهجمّون على المشروع القومي العربي النهضوي التحرري لا يبتغون تصويب مشروع النهوض والتنوير ، وإنما يهدفون إلى تبرير مشاريعهم المناقضة للمشروع العربي بالتركيز على الممارسات التي ُتنسب إلى المشروع القومي ... إلى هؤلاء نقول : نحن اكتشفنا القشة في عيوننا ، ونسعى للمعالجة ، فهل تتنبّهون أنتم إلى الخشبة التي في عيونكم ...؟ . وهل المشاريع غير القومية العربية في أحسن حال ...؟ ، باختصار شديد نقول : أن المشروع القومي العربي أرتكب الأخطاء والخطايا في الأساليب أما المشاريع المناقضة له ، فتعاني من الأخطاء والخطايا في الأساس ، في الأهداف والغايات ، ولعلنا في هذا المقام نستحضر حكمة لإحد أجدادنا العظام عندما قال : "ليس من طلب الحق فأخطأه كمن سعى إلى الباطل فأدركه" ، فهل ما جرى ، ويجري في الوطن العربي سيؤدي إلى المراجعة داخل تلك المشاريع ؟، وفي هذا المجال ، هل لنا أن ندعوهم إلى الكلمة السواء في الأساس والغايات ، في الوقت الذي نحدد فيه الطريق القومي الصحيح إلى الحق ، فندركه معاً ؟ ، لهذا نقول :
"مازال للحديث بقية ..."
حبيب عيسى
(1)
باختصار شديد ، نقول أن الصراعات في الوطن العربي ليست ذات عناصر بسيطة محددة المعالم واضحة من حيث المنشأ والمآل ، وإنما عناصرها متداخلة هجينة المنشأ ناتجة عن تزاوج عناصر داخلية بعناصر خارجية يتداخل فيها التوافق بالتنافر ، وبالتالي لا يمكن تبسيطها حتى تنطبق عليها القاعدة القائلة " عدو عدوي صديقي" ، فنحن الآن في مواجهة صراعات ، ومشاريع ، وفتن ، واقتتال ، قد يكون جميع الأطراف فيها أعداء لمشروع الأمة العربية النهضوي التحرري ، وفي الوقت ذاته يتصارعون فيما بين بعضهم البعض بوحشية لا حدود لها ، فالأطراف الفاعلة على السطح العربي ، محلية ودولية وإقليمية ، في ظل انحسار المشروع القومي العربي التحرري النهضوي ، إما معادية علماً وفعلاً – حالة القوى الخارجية على تنوعها - ، وإما معادية جهلاً وفعلاً – حالة القوى المحلية على تنوعها - ، للمشروع النهضوي التحرري العربي , وإنها مع الاختلافات النسبية بينها ، إلا أنها مجتمعة تتصارع على حجم نصيبها في الوطن العربي ، وتحمل مشاريع هذا التحاصص الإقليمي ، أو الطائفي ، أو المذهبي ، أو الأثني ، أو القبلي ، أو النفطي ، أو الدولي ، كل ذلك في إطار تبعية الأطراف العربية المتصارعة على تنوعها لقوى الهيمنة الدولية ، وهي جميعها "أرادت هذا أو كرهت" ترسم هذه الصورة القاتمة الراهنة لواقع الأمة العربية ، التي لابد للعرب العرب ، الذين يهمهم الأمر ، من اعتناق أفكار مغايرة ، وممارسة أفعال مغايرة ، لتغيير هذه المعادلة المظلمة والظالمة .
عنوان آخر استخدم لتبرير العديد من المواقف ، والمشاريع في الوطن العربي يقول العنوان : لابد أن نحصد نتيجة الأفعال التي تحصل ، لابد من نتيجة نحققها من جراء حرب أكتوبر "تشرين الأول" ، مثلاً ، لابد من نتيجة لانتفاضة الحجارة في فلسطين ، لابد من نتيجة لمقاومة 2006 في لبنان ...؟!، حتى لا تضيع الحروب ، والانتفاضات ، والمقاومات هدراً ، والعنوان صحيح بجوهره ، غير منكور من أحد ، فمن العبث أن يقوم فرد ، أو جماعة ، أو دولة ، أو مؤسسة ، أو مقاومة ، بفعل ، ما ، بحرب ، بمقاومة ، دون استهداف نتيجة من جراء هذا الفعل . لكن حتى يصّح ذلك لا بد من تحقيق شروط بالفعل المقصود ، وشروط أخرى بالنتيجة المطلوب تحقيقها ، ومن ثم الترابط بينهما ، فهل كامب ديفد أوفصل القوات نتيجة عادلة لحرب تشرين الأول "أكتوبر" ؟ ، وهل "أوسلو" نتيجة عادلة للمقاومة والانتفاضة في فلسطين ؟ ، وهل قرار 1701 الدولي واستقدام 15000 جندي أجنبي إلى جنوب لبنان لحراسة مستوطنات الصهاينة في فلسطين نتيجة عادلة لصمود المقاومة في جنوب لبنان ؟ ، وهل ؟؟؟.
( 2 )
هكذا ، إذا لم يتم تحقيق الشروط للربط الإيجابي بين الفعل والنتيجة قد نحصل على نتائج معاكسة ، ولعل من أهم هذه الشروط أن تكون النتيجة المتوخاة متناسبة مع الهدف الذي من أجله تم تنفيذ الفعل ، وأن يكون تحقيق هذا الهدف متوقفاً على وقوع الفعل ، وأن يكون تحقيقه غير ممكن إلا بتنفيذ الفعل الذي حدث ، فإذا كانت تلك النتيجة متاحة بدون الفعل ، فإن هذا يعني أن الجهود والدماء التي بذلت في الفعل تكون قد ضاعت هدراً ....، فكيف إذا كانت النتيجة التي تم التوصل إليها تتناقض مع الهدف المعلن للفعل في الأساس ...؟؟ .
في الوطن العربي استخدمت الكثير من الأفعال الإيجابية لتحقيق تنازلات سلبية ، ونتائج مناقضة ومتناقضة ، والأمثلة على ذلك لا تحصى . والتبرير كان يأتي دائماً من منطلق ضرورة الوصول إلى نتيجة , وخلال الوصول إلى النتيجة تبدأ المساومات ، وبدلاً من تصليب المواقف استثماراً للفعل ، والوقوف عند مطالب تتناسب ، والفعل ...، تبدأ التنازلات خطوة ، خطوة , ويتم تحديد الخيار ، لاختيار أحد موقفين ، إما تقديم التنازلات ، وإما لا نتيجة .... إلى أن يصلوا في النهاية إلى "نتيجة" لا علاقة لها بالفعل الذي حصل ، وبالدماء التي بُذلت ، بل غالباً تنتهي بتنازلات أقل ما يمكن أن يقال فيها ، أنه كان من الممكن الحصول على نتائج أفضل منها بدون الحروب ، والمقاومات ، والفعل ، والدماء ، ذلك أن المعروض رسمياً من الطرف المعادي قبل تلك الأفعال والتضحيات كان أكثر بكثير من الصفقات التي عقدوها نتيجة معارك وتضحيات ومقاومات ... .
( 3 )
المثال الصارخ على ذلك حرب "أكتوبر" تشرين أول ، نذكرها على سبيل المثال ، لا على سبيل الحصر ، لنقيس عليها بعد ذلك....
في السادس من "أكتوبر" تشرين الأول 1973 ، انطلق الجيش العربي في مصر ، والجيش العربي في سورية باتجاه أراضي "دولة مصر" المحتلة ، وأراضي "دولة سورية" المحتلة من قبل "دولة إسرائيل" ، والهدف لم يكن تحرير فلسطين العربية ، بل كان محدداً بتحرير أراضي "الدولتين" تحت شعار "إزالة آثار عدوان 1967" دون تقديم تنازلات "لدولة إسرائيل" بما يتعلق بفلسطين ، ذلك أن السلطة في الدولتين كانت قد رفعت شعار إزالة آثار عدوان 1967 ، أي العودة إلى خطوط هدنة 1948 لا أكثر من ذلك بينما كانت "دولة المستوطنات الصهيونية" تشترط للانسحاب إجراء مفاوضات واعتراف متبادل وتطبيع علاقات ، إذن فغن الهدف المعلن من الحرب كان تحقيق الانسحاب على حدود 67 دون الصلح والاعتراف والتفاوض والتطبيع لا أكثر .
( 4 )
والفعل الذي هو "الحرب" ، هنا ، كان لابد منه لتحقيق هذا الهدف تحديداً لأن المشاريع الصهيونية ، والدولية المعروضة على كل من سورية ومصر ، حتى ذلك الوقت كانت تتضمن مقايضة انسحاب "جيش دولة إسرائيل" من أراضي "الدولتين" ، بشروط محددة منها : اعتراف الدولتين "بدولة إسرائيل" ، والتطبيع معها ، والتعامل معها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياحياً وسياسياً ، باختصار ، المطلوب وفق تلك المشاريع أن تعلقّ الدولتان انحيازهما في الصراع الدائر خارج حدود دولتيهما الإقليميتين بين الشعب العربي الفلسطيني ، وبين "دولة إسرائيل" ، والإعلان جهاراً ، نهاراً ، أن فلسطين ، أو بعضها على الأقل ، هي "دولة إسرائيل" ، وأن تلك الفلسطين ، أو بعضها ، ليست من الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني.
وبما أن السلطتين في الدولتين "سورية ومصر" رفضتا المقايضة ، وقررتا تحرير أراضي الدولتين المحتلة من قبل "دولة إسرائيل" دون شروط تتعلق بفلسطين ، كان لابد من فعل الحرب لتحقيق هذه النتيجة.
( 5 )
وحصل فعل الحرب في الواقع ، لكن ماذا كانت النتيجة التي ُنسبت في النهاية إلى حرب أكتوبر "تشرين الأول" ؟؟ .
لنتتبع الطريق إلى النتيجة خطوة ، خطوة ، وكيف اسُتخدمت كل خطوة لتبرير الخطوة التالية ، تراجعاً حتى عن ما كان معروضاً قبل فعل الحرب .
قالوا بعد وقف إطلاق النار 1973، أولاً ، لابد من التفاوض المباشر ، فجميع الحروب تنتهي بالتفاوض ، ولنبدأ بالعسكر :
إذن لابد من الاجتماع العلني بين العسكر من الطرفين لفصل القوات حتى يتم البحث في الوصول إلى النتيجة ، بهدوء. وحصل . وعلى العرب أن يعتادوا على المشهد ، مشهد أعلام الدول الإقليمية ، وعلم "دولة إسرائيل" على طاولة واحدة ، وقد اعتادوا ...
• ثم لابد من اتفاقية للفصل بين القوات تحصل بين الأطراف ويحميها العالم ممثلاً بالأمم المتحدة ، والجيوش الدولية ، وحصل ، "اتفاقية الفصل في سيناء,اتفاقية الفصل في الجولان".
• "دولة إسرائيل" غير مستعدة لتقديم "تنازلات" أخرى إلا بإنهاء حالة الحرب وتحديد أراضي مجردة من السلاح ، وحصل ، المناطق أ و ب و ج من دمشق إلى الجولان ، ومن القاهرة إلى سيناء ، وتوجت المرحلة "اتفاقية سيناء الثانية" المذلة .
• "دولة إسرائيل" لم تعد تستطيع تقديم تنازلات أخرى ، وعلى الرئيس السادات ، إما أن يعلن فشل مشروع السلام ، أو الذهاب إلى "إسرائيل" ، واختار سيادته الذهاب , فمن غير المعقول أن يعلن فشل مشروعه ؟ !.
• على منبر "الكنيسيت الإسرائيلي" أعلن الرئيس السادات "مشروعه للسلام" مع "دولة إسرائيل" ، وعرض حسن الجوار ، وقدّم رجاء بالانسحاب من سيناء ، والأرض العربية المحتلة الأخرى ، باستثناء الأرض التي تقوم عليها "دولة إسرائيل" حتى عام 1967 ، فهذه "لم تعد عربية" من وجهة نظر سيادته .... ورفضت "إسرائيل" الانسحاب من سيناء ، وكان على سيادته أن يعلن استقالته كما وعد ، أو أن يقدم تنازلات أخرى ، ومرة أخرى اختار سيادته الحل الثاني.
• أصبح الرئيس أنور السادات نجماً عالمياً ، وأعلن الرئيس جيمي كارتر رئيس دولة الولايات المتحدة الأمريكية في الإسكندرية ، أنه يخشى على منصبه من شعبية الرئيس السادات في أمريكا وحمد الله أن السادات ليس أمريكياً ، وإلا لما كان له "كارتر" حظ في الرئاسة ، ثم بعد ذلك استدعي سيادة الرئيس السادات إلى منتجع كامب ديفيد لتوقيع الصفقة بتسوية الأمور بين مصر و"إسرائيل" ، وكان على سيادته ، إما أن يوقع على الصفقة ، ويعلن لا حرب مع "إسرائيل" بعد الآن ، أو يعلن فشل مبادرته ، واختار سيادته التوقيع والإعلان . ونحن نقول أن تلك الصفقة كانت قرار إسرائيلي – أمريكي ، ولا نقول "اتفاقية كامب ديفيد" الثلاثية ، لأن أي قراءة متأنية لما سمي "اتفاقية كامب ديفيد" توضّح أن النص من حيث الصياغة ، والإسناد ، والنتيجة يخدم طرفاً وحيداً هو دولة "إسرائيل" التي نقلت علمها من أقصى سيناء في الشرق ، إلى قلب القاهرة يرفرف فوق سفارتها ، ثم أعلنت "دولة إسرائيل" التي يجب مراعاتها لأنها "دولة ديمقراطية" أو "دولة مؤسسات" بأن ما قدمته في "كامب ديفد" كان تنازلاً ، وأنها لن تعود لمثل ذلك ، فكما أعلن الرئيس السادات أن حرب اكتوبر كانت آخر الحروب ، فإن انسحابها من سيناء هو آخر الانسحابات .
( 6 )
فهل يمكن ، بأي حال من الأحوال ، اعتبار "معاهدة كامب ديفيد" و"اتفاقية فصل القوات" هي المعادل لدماء الشهداء في حرب "أكتوبر" تشرين الأول في كل من مصر وسورية..؟ ، وهل يمكن اعتبار هذه النتيجة هي الغاية التي كان يتوخاها الشهداء ؟ .
إن أي مهتم يستطيع دون عناء أن يرجع إلى ما قبل 6أكتوبر "تشرين أول" 1973 ، ليقرأ مشاريع رسمية عرضها المسئولين الصهاينة في "دولة إسرائيل" على مختلف مستوياتهم ، واتجاهاتهم ، تعرض على "الدول المجاورة" أكثر بكثير من عقد الإذعان الذي وقعه السادات في "كامب ديفيد" ، ومن "فصل القوات" ... فلماذا كان فعل الحرب ، إذن....؟!! ، ولماذا دماء الشهداء ؟؟
ثم إلى الذين يريدون التعلم مما جرى نقول : فقط ، قارنوا في المواقف ، وتساءلوا لماذا؟؟؟
قارنوا بين مشروع الرئيس السادات عشية حرب أكتوبر ، وبين مشروعه على منبر الكنيسيت ، وبين "اتفاقية الكامب" ، وتساءلوا ، فقط مجرد تساؤل ، لماذا حصل كل هذا التنازل ، وكيف؟؟؟
المهم , أليس من المعيب بعد ذلك كله أن ننسب معاهدة "كامب ديفيد" كنتيجة لحرب أكتوبر ... هل يكفي هذا كمقياس؟ ، وهل يجرؤ أحد على اعتبار "أوسلو" نتيجة لتضحيات أطفال إنتفاضة الحجارة في فلسطين العربية وحجة تبريرية بأنه كان لابد منها حتى لا تذهب دماء الانتفاضة هدراً..؟ ، هل نتابع النتائج المخذية التي تم تركيبها على البطولات والتضحيات المشرّفة ...؟؟؟!!! .
باختصار شديد ، نقول أننا فجعنا خلال العقود القليلة الماضية بكثير من الأفعال والجهود والنضالات والتضحيات والمقاومات التي التفت حولها الجماهير العربية ، بل وصنعتها الجماهير العربية في أغلب الأحيان ، وقدمت الأمة العربية في سبيل تحقيقها أغلى التضحيات وأعز الشهداء وأهدرت في سبيلها دماءً غزيرة ، وإمكانيات هائلة ، ثم كانت المحصلة كارثة على الصعد كافةً ، فهل يكفي ما حدث لوضع حد للتضليل؟ .
( 7 )
التبرير بالمستقبل : عندما تسقط الحجج التبريرية السالفة بأي حوار جاد يتم اللجوء لما يمكن أن يحدث في المستقبل ، لتبرير موقف ُمخذ راهن .
يقولون: دعونا الآن نفعل ما نقدر عليه ، وما تسمح به الظروف الموضوعية ، وغداً ، أو بعد غد ، ستكون الجماهير العربية قادرة على أن تمحو ما تريد ، وتصنع ما تريد ، وتحرق الصكوك التي لا تريد .
لاشك أن العرب العرب يستمدون المقدرة على تحمل المصائب التي تنزل على رؤوسهم هذه الأيام من تلك المقولة ، ومن ثقتهم الإستراتيجية بالمستقبل ، وبمقدرة الجماهير العربية على أن تفرز "طليعة عربية" تحقق مشروع التحرير والنهوض والتنوير ، ويبحثون لأنفسهم ، ولأولادهم ، وللأجيال العربية القادمة عن دور في هذه المهمة التاريخية ، لكن أن يتم استخدام هذا الحلم , الأمل ، وتحويله إلى وسيلة مضللة لتبرير أفعال ، ومساومات ، وتنازلات راهنة مخذية ، فهذا ما يجب أن يتم وضع حد نهائي له .
إن الحد الأدنى من الجدية يقتضي التأكيد على المبادئ الأساسية لتقييم أي موقف سياسي ، أو غير سياسي ، فالموقف يكون صحيحاً ، أو غير صحيح ، لا بقدرة الأجيال القادمة على تغييره ، أو إلغائه ، وإنما بتحديد المعايير الذاتية ، والموضوعية لهذا الموقف . والمعيار الأساسي الذي يحسم المسألة ، هو : لمصلحة من هذا الموقف..؟ ، هل يخدم الهدف الإستراتيجي ، أو حتى المرحلي ، أم يخدم الخصم ؟ ، وعلى هذا الأساس يمكن تقييمه سلباً ، أو إيجاباً..
( 8 )
وفي الوطن العربي ، في ظل ظروف بالغة التعقيد وجدنا أنفسنا أمام مواقف وأفعال كثيرة تندرج ، في ظل أي تقييم جاد علمي ، تحت عنوان مواقف وأفعال معادية لأي هدف استراتيجي ، أو مرحلي للأمة العربية ، وأن المكان الحقيقي لتلك المواقف والأفعال ، هو ، في استراتيجية القوى المعادية . ويستطيع أي متتبع أن يجد في الإستراتيجيات المعادية ما يتطلب مثل هذا الموقف ، وذلك الفعل.
إن الأجيال العربية القادمة إذا تجاوزت الأمراض التي عانى ، ويعاني منها جيلنا ستمحوا ، وتغيّر ، وتحرق ما يجب محوه ، وتغييره ، وحرقه . لكن لا يحق ، بأي حال من الأحوال ، للذين ينفذوّن هذه الأفعال ، والمواقف السلبية ، من أبناء جيلنا ، أن ينكروا للحظة واحدة أنهم يورثوّن تلك الأجيال القادمة بمواقفهم هذه ، وأفعالهم تلك ، أعباء إضافية , وأنهم ، سواء كانوا يدرون ، أو لا يدرون أضافوا إلى الأعباء الجسيمة ، أعباء جديدة ، وراكموا المواقف والأفعال المعادية ، وبالتالي ، فإنهم في ظل أي تقييم علمي وموضوعي ، وبعيداً عن العواطف ، ينتسبون هم ، وأفعالهم إلى المشروع المعادي للوجود القومي العربي النهضوي التنويري . فهل يكفي ما حدث حتى الآن لوضع حد للتضليل ؟ .
( 9 )
وأخيراً ، فإننا نعرض لأسلوب تبريري ذو طبيعة هجومية ، يقول: (عجيب أمر هؤلاء العرب القوميون يتحدثون عن الإستراتيجية ، وأفعال إستراتيجية ، وهم عاجزون عن اتخاذ مواقف ، أو تنفيذ أفعال ، لا إستراتيجية ، ولا حتى مرحلية . وهم عوضاً من أن يداروا أنفسهم خجلاً من هذا العجز ، والفشل ، ويحاولون تداركه اتجهوا إلى تبرير عجزهم ، وتخاذلهم بالتهجم على كل من يعمل ويناضل في الوطن العربي ، يكفروّن الجميع ، ويهاجمون الجميع ، ولا يعجبهم العجب العجاب ، وهم التبريريون ، في حقيقة الأمر ، ينطبق عليهم القول الشعبي : "لا يعملون ولا يتركون الآخرين يعملون" ، ويتابعون :
هل استطاع القوميون توحيد الأمة العربية ، ونحن رفضنا؟؟
هل حررتم فلسطين من البحر إلى النهر ، ورفضنا؟؟
هل أقمتم نظام العدالة الاجتماعية ، ورفضنا؟؟
هل أقمتم دولة العرب الديمقراطية ، ورفضنا...؟
هل ، وهل ....وهل...؟ ، ثم يتابعون : أنتم أيها القوميون من رفع الأهداف القومية والتحررية والاشتراكية والديمقراطية والتوحيدية ، وأنتم من نكص عنها ، واتجهتم إلى تبرير نكوصكم ، ولا نقول هزائمكم ، بشتى أنواع التبرير ، أنتم من أقام النظم الشمولية والاستبدادية والقمعية تحت مظلة صخبكم عن الحرية ، وأنتم من رسّخ الإقليمية والصراع الإقليمي ، بل أنتم من انحدر إلى تفتيت المُفتت ، وإلى فتن ما قبل المواطنة حتى في الأجزاء ، تحت شعاراتكم الصاخبة عن الوحدة العربية ، وأنتم من أنتج المافيات والفساد والنهب تغلفون ذلك بالصراخ عن حقوق العمال والفلاحين وترفعون شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ، هل هناك حاجة لتذكيركم بما فعلتم بالمجتمعات التي تحكمتم بها ؟ ، بل هل هناك حاجة لتذكيركم بما فعلتم ببعضكم بعضاً حتى داخل التيار القومي العربي ذاته ؟ .
"وإذا كنتم أيها القوميون العرب لم تفعلوا إلا عكس الأهداف التي ادعيتم رفعها ، وكانت نتائج سائر أفعالكم تصب في المقلب الآخر الذي أبعد الأمة العربية عن التحرر والتوحيد والعدالة الاجتماعية والتنمية والنهوض والتنوير ، فهل تكفوّا أيها القوميون عن التشويش على الذين يعملون ، وتوفرون النصائح ، والتشدق بالأهداف الكبيرة ، والرفض ، والشعارات ... وإلى آخره ، لأنفسكم .. ويتابعون : هذا ما استطعناه نحن ، فإذا كنتم تستطيعون تحقيق أفضل من ذلك تفضلوا إلى الساحة ، لنصّدق أن هناك علاقة إيجابية بينكم ، وبين ما تقولون ، إن المأزق الذي تعيشون هو من صنع أيديكم ، فأنتم أولى بالدعوة للكف عن التبرير ... ).
( 10 )
بدون مواربة ، وبدون تبرير ، وبدون إنكار ، نقول إن المشروع القومي العربي التحرري والنهضوي ما كان في الموقع الذي هو فيه الآن لولا الأخطاء والخطايا التي ارتكبت باسمه ، والرواد القوميون الجدد مطالبون بالمراجعة لا بالتبرير ، لقد قال الشاعر العربي يوماً : " إذا مررت بإختها فحد " ، وهم الآن ، بالضبط الآن ، عليهم أن يحيدوا عن المثالب والأخطاء والأساليب والخطايا التي أودت بإسلافهم إلى ما هم عليه ، لهذا ، فنحن لن نرد على الذين يتهجمون على المشروع القومي العربي بتبرير ما اقترفه السفهاء منا ، بما اقترفه ومازال يقترفه السفهاء منهم ، وإنما سنرد بتصويب المسار القومي إلى الغائية القومية العربية التقدمية ، منهجاً وأسلوباً وحركة وسلوكاً وصدقاً ومرؤوة وشهامة وشجاعة وأنسنة وعدالة ومساواة وتأدية للواجبات قبل المطالبة بالحقوق ، بالقطع مع الفردية والأنانية والاحتكام إلى المؤسسات القومية والمجتمعية ، والالتزام بالمواثيق والعقود التي تقرها الجماعة ، والولاء والانتماء للوطن والأمة بحيث تمر سائر الانتماءات الأخرى عبر هذا الولاء والانتماء ، نقول ذلك من مواقع الحصار ، لكننا سنقوننه في مواقع الانتصار ، حرية الإنسان أولاً ,وحريته أخيراً ، فليس هناك قضية مهما كانت تبرر انتهاك حقوق الإنسان أو وضع القيود على حركته أو الحد من حقه في التعبير أو استغلاله ، نقول ذلك ، ونحن نقرّ أن المشروع القومي العربي النهضوي التحرري منحسر فعلاً ، ومحاصر ، وعاجز آنياً عن مواجهة المشاريع المعادية ، والقوى المناقضة له تسيطر على الواقع العربي موضوعياً ، وتتخذ المواقف ، وتحرك الأحداث باتجاهات معاكسة لما يستهدف , وتصنع هذا الواقع الذي نحيا , كل هذا صحيح ، وغير منكور من أحد ، ولم يعد ُيجدي القوميون العرب التقدميون تبرير ذلك ، بمؤامرات الإمبريالية والصهيونية والرجعية والقوى المضادة ، فالذي مكنّ القوى المضادة من هزيمة القوميين ومشروعهم النهضوي هو القصور الذاتي للقوميين أنفسهم ، وممارساتهم المعاكسة لأهدافهم ، وبالتالي عليهم الانتقال من التبرير إلى المراجعة ، فلهذا القصور والانحسار والهزائم أسباباً ذاتية خاصة ببنية المشروع القومي العربي التقدمي ومنهجه وأساليبه ، والمشكلة التي تنتظر الحلول كامنة في بنية المشروع القومي العربي التقدمي ، أما القوى المضادة ، فمن حقها أن تسعى لتحقيق مشاريعها المعادية للأمة العربية ، وأن تستغل الثغرات في المشروع القومي التقدمي ...
البداية ، إذن ، تكون بأن يكفّ القوميون العرب التقدميون الجدد عن التبرير ، وأن يقطعوا مع الأساليب والنهج الذي أودى بهم ، وبالأمة العربية إلى الدرك الذي نحن فيه جميعاً ، هكذا تصبح المراجعة فعل إيجابي يؤسس لمصير عربي تستحقه أمة الحضارات ، وليس مجرد بكاء على الأطلال ...
نقول ذلك ، ونحن ندرك أن الكثيرين من الذين يتهجمّون على المشروع القومي العربي النهضوي التحرري لا يبتغون تصويب مشروع النهوض والتنوير ، وإنما يهدفون إلى تبرير مشاريعهم المناقضة للمشروع العربي بالتركيز على الممارسات التي ُتنسب إلى المشروع القومي ... إلى هؤلاء نقول : نحن اكتشفنا القشة في عيوننا ، ونسعى للمعالجة ، فهل تتنبّهون أنتم إلى الخشبة التي في عيونكم ...؟ . وهل المشاريع غير القومية العربية في أحسن حال ...؟ ، باختصار شديد نقول : أن المشروع القومي العربي أرتكب الأخطاء والخطايا في الأساليب أما المشاريع المناقضة له ، فتعاني من الأخطاء والخطايا في الأساس ، في الأهداف والغايات ، ولعلنا في هذا المقام نستحضر حكمة لإحد أجدادنا العظام عندما قال : "ليس من طلب الحق فأخطأه كمن سعى إلى الباطل فأدركه" ، فهل ما جرى ، ويجري في الوطن العربي سيؤدي إلى المراجعة داخل تلك المشاريع ؟، وفي هذا المجال ، هل لنا أن ندعوهم إلى الكلمة السواء في الأساس والغايات ، في الوقت الذي نحدد فيه الطريق القومي الصحيح إلى الحق ، فندركه معاً ؟ ، لهذا نقول :
"مازال للحديث بقية ..."
حبيب عيسى