Friday, December 24, 2010

العراق وقطبة الابرة لمنير درويش

شكل العراق على الدوام قطبة الإبرة في الوضع العربي ، فهو مع سورية ومصر ، الدول الأساس التي يتوقف عليها المستقبل العربي ، بل القوائم التي ترتكز عليها الطاولة العربية المستديرة ، إن جاز التشبيه . وضعف أو وهن إحدى هذه القوائم سيؤدي إلى اضطراب الطاولة أو سقوطها . .

جغرافياً. تشكل هذه الدول صلة الوصل بين أجزاء الوطن العربي، كون سورية جزء من بلاد الشام، لبنان وفلسطين والأردن. بينما يتصل العراق بالجزيرة العربية والخليج العربي، وتشكل مصر المدخل إلى بلدان المغرب العربي والسودان. كما تشكل الصلة مع العالم عبر البوابة التركية وريثة الإمبراطورية العثمانية، وعبر إيران وريثة الدولة الفارسية، وكلاهما كان لهما شأن في الوضع العربي بينما تتصل مصر مع أفريقيا. .

تاريخياً كانت دمشق عاصمة أول دولة عربية هي دولة الأمويين ، وأصبحت بغداد عاصمة الدولة العباسية ، لتنتقل السلطة في فترات طويلة إلى مصر بعد أن فتحها العرب .

نحن لا نكتب التاريخ ، لكننا لا نتجاهل دور التاريخ في تحديد مكانة الدول ودورها في بناء المستقبل ، خاصة بالنسبة لبغداد التي كانت على الدوام الفيصل في تاريخ العرب ، وكان من نتيجة سقوطها على يد هولاكو ، أن سقطت الدولة العربية وتزعزع الوجود العربي ، وتشرذم العرب إلى ملل وطوائف .، وأتاح للشعوبيات والأقوام الأخرى فرصة السيطرة والهيمنة عليهم بعد أن كان الإسلام قد وحدهم ومنحهم قوة حمل رايته ونشرها في أصقاع الأرض .

وكان من نتيجة احتلال بغداد من قبل الولايات المتحدة قبل 7 سنوات ( 2003 ) إعادة زعزعة الوضع العربي عبر سلسلة من الأحداث الخطيرة ، أعادت تفتيت المجتمع العراقي وتفكيك أوصاله ، بعد أن فكك الدولة ومؤسساتها القائمة ، والتي كانت تشكل أساساً لدولة صاعدة إذا قيست بالدول النامية . كما قام بتفكيك مؤسسة الجيش الذي وصل بقوته حسب تقدير الاستخبارات العالمية إلى واحد من أقوى عشرة جيوش في العالم ، وأول من بنى مفاعلاً نووياً قامت إسرائيل بتدميره قبل أن يبدأ عمله . وأخطر ما نتج عن الاحتلال هو شرعنة الواقع الطائفي والعرقي ليس كمكونات اجتماعية موجودة ومتعايشة في المجتمع العراقي ، بل كمكونات سياسية وإيديولوجية متخاصمة ، وعلى خلفيتها تم إلغاء انتماء العراق لوطنه العربي وأمته العربية ، هذا الانتماء الذي كان حاضراً في الدساتير التي نصت على الدوام " أن العراق جزء من الوطن العربي " أنظر دستور 1970 مثلاً الذي نص في مادته الخامسة على أن العراق جزء من الأمة العربية " .تماماً كما نص الدستور السوري على إن " القطر السوري جزء من الوطن العربي، والشعب السوري جزء من الأمة العربية " وكذلك الدستور المصري. بينما نص الدستور العراقي الصادر عام 2005 والمعمول به الآن على " إن العراق بلد متعدد المذاهب والقوميات ، وهو جزء من العالم الإسلامي ، وعضو مؤسس في جامعة الدول العربية وملتزم بهيئاتها " . وهذا يشكل تراجعاً حتى عن النص الذي أقره بول بريمر الحاكم الأمريكي عام 2004 الذي ينص على " أن العراق بلد ديمقراطي والشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية "

إن المعنى الحقيقي لعزل العراق عن انتمائه العربي هو إعفاءه من التزاماته العربية وحرمان الشعب العربي فيه والذي يزيد عن 65 % من سكانه من المشاركة في هذه الالتزامات ، ولا يضير العراق أن يكون منتمياً للعالم الإسلامي لكن تجاهل انتماءه العربي وفي ظل ضعف السياسات العربية أتاح المجال من جديد للقوى الخارجية القريبة والبعيدة أن تتدخل في شؤونه وتعمل على تقرير مصيره .

وكان من نتيجة الاحتلال زرع الاختلاف واحتدام النقاش بين المثقفين والسياسيين العرب حول شرعية الاحتلال كوسيلة للتخلص من أنظمة القمع والديكتاتورية إذ وقف بعضهم مؤيداً والبعض صامتاً أو لا مبالياً وهذا ما شجع الاحتلال في ظل واقع عربي تحكمه الأنظمة الاستبدادية ويسوده التخلف والتأخر إلى مواصلة إستراتيجيته العدوانية باختراع وسائل تعزز هذا الاختلاف حول مواضيع مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان . لكن البعض أيضاَ وقف معارضاً من جهة وداعياً للمقاومة كحق مشروع لمواجهة الاحتلال .

وكان من نتيجة الاحتلال ، زعزعة كيان الدولة السودانية بعد أن أدت سياسات النظام واستهتاره بالقيم الوطنية إلى تنشيط الحركات الانفصالية وخاصة في دار فور التي حظيت باهتمام عالمي بعد الجرائم التي ارتكبتها القوى المتخاصمة وعادت قضية الجنوب للواجهة من جديد بعد الهدنة التي حققتها اتفاقية نيفاشا عام 2006 لتضع السودان أمام خياري ، إما الحرب أو انفصال الجنوب .

أما في اليمن فقد لجأت بعض الأطراف اليمنية للمطالبة بانفصال جنوب اليمن بعد عشرين عاماً من الوحدة مستخدمة أيضاً ممارسات النظام وسيلة لشرعية هذه المطالبة .

لكن الدور البارز الذي لعبته الإدارة الأمريكية بعد الاحتلال كان في الزعزعة الوضع اللبناني بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005 ، حيث بادرت وقبل أن يبدأ التحقيق إلى توجيه الاتهام مباشرة لسورية ، ودفعتها لسحب قواتها من لبنان بعد أن كانت قد اتهمتها بدعم المقاومة في العراق ، في محاولة لتبرير المأزق الذي وقعت فيه بعد تصاعد عمليات المقاومة ، وفرضت عليها قانون المحاسبة بحجة أنها تفتح حدودها لدخول من سمتهم ( بالإرهابيين ) .

وتبنت على الفور قضية تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في اغتيال الحريري كظاهرة فريدة في تاريخ العلاقات الدولية ، حيث لم نسمع بتشكيل محاكم بقرارات دولية للتحقيق في مقتل مواطن على أرض بلده مهما كان مركزه أو موقعه حتى لو كانت الجريمة سياسية ، وأغلب جرائم الاغتيال التي تطال مسؤولين هي سياسية . أنا لست خبيراً في القضايا القانونية أو الحقوقية ومن المتحمسين لكشف الفاعلين في هذه الجريمة وكل الجرائم الأخرى ومحاسبتهم لكن ما أعرفه أن مثل هذه المحكمة هي من اختصاص القضاء اللبناني الذي جرت الجريمة على أرضه وطالت أحد أبنائه. وعند التوصل إلى نتيجة التحقيق يمكن الاستعانة بالانتربول أو مساعدة قوى ودول لاعتقال الفاعلين .

هل طلبت الولايات المتحدة تشكيل محكمة دولية للتحقيق باغتيال رئيسها جون كندي عام 1962 قبل أن يعرف القاتل والذي بقي في إطار الاتهام الظني حتى الآن ؟ أو طلبت السويد تشكيل هذه المحكمة بعد مقتل وزير خارجيتها أوف بالميه قبل معرفة القاتل ، أو اغتيال بنظير بوتو التي بقيت قضيتها مجهولة ؟ بل هناك مئات الاغتيالات التي بقيت مجهولة الفاعلين ولم تشكل لها محاكم دولية

وكان من نتيجة الاحتلال مطالبة سورية لإقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان وترسيم الحدود ، لدق أخر إسفين في العلاقات العربية المفتوحة والتي كانت أملاً لتطور هذه العلاقة نحو التوحيد .

وكان من نتيجته أيضاً إطلاق سياسة ( الإسلاموفوبيا ) المعاداة السياسية للإسلام في الغرب والتي أخذت تمارسها السياسات الغربية بتحريض من السياسة الأمريكية تحت شعار صراع الحضارات الذي أطلقه هنتنغتون وتبناه الرئيس بوش ، مما أدى لخلق نوع من الفوضى في المجتمعات وخاصة الهشة منها والمهيأة لمثل هذه الفوضى حيث دفعت بمكوناتها للنصادم بعد أن أسست له بالعديد من الحوادث المفتعلة إما إيديولوجياً عبر سلسلة الإساءات والفتاوى التي تمارسها جميع الطوائف والمذاهب وليس لها ضوابط دينية أو مؤسساتية فخرجت من إطارها الشخصي الذي يمنح الأفراد حرية اختيارهم لطريقة حياتهم ، عندما لا تؤدي إلى إيذاء الآخرين ، وانتقلت إلى الممارسة الجماعية بعد تسييسها بقرارات وقوانين ، الحجاب المآذن والعبادات في الغرب ،والتكفير والتقاتل بين الطوائف والمذاهب في الشرق . فوضعت العلمانية في موقع الاتهام وأظهرتها وكأنها السبب في ما يحدث، أو كأن بوش الذي أدعى أنه استمد سياسته من نبوءات وهمية كان يمارس العلمانية.

لقد روجت الإدارة الأمريكية أن قواتها انسحبت من العراق ولم يبق سوى خمسين ألف جندي . بينما تتمركز فيه 94 قادة عسكرية تشكل نطاقاً حوله وفي داخله .

كما روجت أن الاحتلال حول العراق لبلد ديمقراطي في وسط عربي تحكمه أنظمة استبدادية، وصدقها البعض بل توهم أن الانتخابات التي جرت في العراق هي نموذجاً مقبولاً إذا ما قيست بالأوضاع العربية. لكن الواقع يكشف زيف هذا الادعاء إذا علمنا أن العراق تحول إلى بلد القتل والتهجير والاعتقال والفساد.

فهو رابع بلد من حيث الفساد في العالم، وقتل فيه مليون مواطن وأعداداً لا تحصى من الجرحى والمعوقين، وفيه مليوني أرملة وخمسة ملايين يتيم، وخمسة ملايين مهجر اثنان منهم للداخل وثلاثة ملايين للخارج وبينهم أعداد كبيرة من الكفاءات العلمية والفنية. ، وعشرات الآلاف من المعتقلين الذين يخضعون لانتهاكات لا إنسانية . ، وفوق ذلك هناك 200 ألف مخبراً سرياً لمراقبة تحركات المواطنين ( وليد الزبيدي ، مجلة المستقبل العربي ، آذار 2010 ) . وإذا استثنينا منطقة كردستان العراق من هذه الأرقام يكون لكل حوالي 120 مواطن صغيراً وكبيراً مخبراً سرياً .

وهناك في العراق 10 ملايين مواطناً تحت خط الفقر أي أكثر من ثلث السكان مع مليوني شاب وشابة عاطلين عن العمل ( جريدة الاتحاد الإماراتية يوم 15 / 12 / 2010.) في بلد يسبح على بحيرات من النفط .والموارد الأخرى . ،

هذه الأرقام ليست بلا معنى عندما توضع في إطارها السياسي والنفسي ، لأنها ستكون عاملاً هاماً إما في إنتاج أوضاع نفسية تدعو للخنوع التام أو التطرف من أجل الانتقام .فعن أية ديمقراطية يتحدثون ؟ سوى ديمقراطية ( الاحتلال المستمر) الذي يبرر وجوده كأمر واقع ، بعد أن احدث فراغاً في السلطة تجعلها تتمسك ببقائه حماية لها أو تجعل المواطنين يتمسكون بوجوده بعد أن عجزت السلطة عن حمايتهم . ولا زال البعض يتحدث عن لا شرعيات تطال هذه المؤسسة أو تلك متجاهلاً لا شرعية الاحتلال بكل أشكاله وجميع إفرازاته .

إن استمرار أوضاع العراق الراهنة تشكل خطراً على الوضع العربي وستبقى كذلك طالما بقي الاحتلال ، وسيبقى يخضع للتجاذب الخارجي ، وميداناً للتطرف تعصف فيه ، وإن خلاصه لن يكون إلا إذا أدرك شعب العراق أن انتماءه العربي وإحياء مشروعه القومي هو الذي يعيد اللحمة لأبنائه ويحافظ على حقوقهم الثقافية والاجتماعية ، وهو يشهد كيف تمسك إخوتهم الأكراد بمشروعهم القومي لقوميتهم ووحدتهم ، بعد فترة من الاقتتال بين أحزابهم وفئاتهم وعشائرهم .

هذا المشروع هو وحده أيضاً الذي سيجعل العراق ينهض من جديد وطناً قوياً لكل أبنائه فاعلاً لا مفعول به.



دمشق 19 / 12 / 2010 منير درويش .