لم ينزل الملك عبد الله بن عبد العزيز من الطائرة سيراً على الأقدام، بل صُمّم له كرسيّ متحرك خاص بالمقعدين ليقلّه من داخل الطائرة إلى أرض المطار. هذا المشهد كان كافياً ليعطي صورة واضحة للحالة الصحية للملك السعودي، الذي عاد إلى الرياض في 23 شباط الماضي من رحلة علاجية في الولايات المتحدة استمرت شهرين، ونقاهة في المغرب دامت شهراً. وقبل أن يرجع الملك إلى بلاده، سرت شائعات واسعة عن وفاته في المغرب، وعلى الفور حصلت خضّة كبيرة داخل المؤسسة الرسمية لسببين؛ الأول هو عدم وضع سياسات واضحة لمواجهة آثار الأحداث الكبيرة التي تشهدها المنطقة العربية منذ إطاحة حكم الرئيس التونسي بن علي الذي صار لاجئاً في جدة، ولا سيما أن رياح التغيير باتت على حدود المملكة. والثاني هو عدم حسم الخلاف الداخلي بشأن آلية انتقال العرش بعد رحيله، إذ تتنازع تيارات عدة بين دعاة الملكية الدستورية وأنصار تطبيق قانون هيئة البيعة، في وجه من يتمسكون بالآلية القديمة القائمة على التراتبية التي عُمل بها منذ رحيل الأب عبد العزيز سنة 1953.
سبق وصول الملك عبد الله إلى الرياض جملة من الإجراءات لجهة تدارك الأوضاع العامة في البلاد، إذ شمل الملك السعودي شعبه بالكثير من العطايا التي بلغت نحو 36 مليار دولار، خُصّصت لدعم السكن وزيادة الرواتب بنسبة وصلت إلى 15 في المئة، يُضاف ذلك إلى النفقات المخطط لها في الميزانية السعوديّة لتحسين التعليم والبنية التحتية والرعاية الصحية، التي تصل قيمتها إلى 400 مليار دولار حتى نهاية عام 2014.
وترافقت هذه القرارات مع الإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين، ووعود بانفراج كبير. ويرى مراقبون محليّون للوضع أن خطوات الملك أملتها التطورات الأخيرة في المنطقة العربية، من تونس إلى مصر وبقية بلدان الخليج، وخصوصاً الحراك الشعبي الكبير في البحرين. ورغم أهميّة المسكّنات التي قدمها الملك للسعوديين، فإن المراقبين يقدّرون أن التفاعل السعودي الحاصل على نحو وقائي مع الهزات التي يشهدها العالم العربي، لا يرقى إلى الآثار المحتملة على المملكة التي تعيش وضعاً سياسيّاً صعباً ومعقّداً، سببه في الدرجة الأولى تشدّد الجيل القديم، وعدم قدرته على استيعاب المتغيرات الحاصلة، وخصوصاً في المحيط الخليجي.
وتراقب الرياض جيّداً الموقف في البحرين وسلطنة عمان والكويت واليمن، ولكن من زاويتين مختلفتين. وأرخت التطورات البحرينية بثقلها على السعودية، وبدت أكثر إثارة لاهتمام الرياض، التي تابعت حراك الشارع البحريني أولاً بأول، ووضعت ثقلها وراء ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة لكي لا يتنازل أمام ضغط الشارع، بل أرسلت قوات سعودية متخصصة في مواجهة الشغب لمساعدة قوات الجيش البحريني خلال الأيام الأولى من انتفاضة البحرين، التي بدأت في 14 شباط الماضي. وتحدث صحافيون أجانب وناشطون بحرينيون عن تعرضهم للضرب على أيدي قوات سعودية في المنامة.
اضطراب الوضع البحريني دفع الرياض إلى التحرك على المستوى الخليجي، وإلى استنفار العصبية الخليجية، فعقدت اجتماعاً لوزراء خارجية التعاون في المنامة، وخرج بموقف موحّد داعم للحكم البحريني لجهة تجميد الموقف ومنعه من التفاقم في اتجاه الاستجابة لمطالب الشارع بملكية دستورية.
وبينما كانت السعودية منهمكة في محاصرة تداعيات أحداث البحرين، هبّت عليها رياح جديدة من جهة جارتها الأخرى سلطنة عمان، حيث شرع المواطنون العمانيون، خلال الأسبوعين الأخيرين، بحركة احتجاجية خرقت جدار الصمت الطويل. وللمرة الأولى نزل العمانيون إلى الشارع رافعين أصواتهم ومطالبين بالتغيير. وجاءت موجة التظاهرات الأولى من محافظة صحار البحرية ذات الثقل الاقتصادي الكبير.
ورغم أن الحكم العماني يتميّز بأسلوبه الهادئ في معالجة المشاكل، فقد سال دم المتظاهرين في الأيام الأولى، وسقط قتلى. إلا أن المتظاهرين لم يتراجعوا، ورفعوا شعارات تطالب بتصفية المافيات الاقتصادية التي تنهب البلد، وإفساح المجال أمام حياة سياسية حرة وديموقراطية. وسرعان ما التقط السلطان قابوس رسالة الشارع، وأقدم على إجراءات استباقية ضحّى من خلالها بأبرز رجالات حكمه في الأمن والاقتصاد. وإذ شملت الإقالات 13 وزيراً، فإن قابوس استغنى عن أهم شخصيتين في محيطه الرسمي، وهما الفريق أول علي بن ماجد المعمري، وزير المكتب السلطاني الذي يُعدّ أكبر جهاز أمني في سلطنة عُمان، وعلي بن حمود البوسعيدي، وزير ديوان البلاط السلطاني.
وقد استبق ذلك بحزمة من الإصلاحات، حين أمر بتوفير خمسين ألف فرصة عمل فوراً، إضافة إلى إعطاء الباحثين عن عمل معونة شهرية قدرها 150 ريالاً عمانياً، أي نحو 380 دولاراً. كذلك منح صلاحيات جديدة لمجلس الشورى، يستطيع بموجبها محاسبة أعضاء الحكومة، والإشراف على المشاريع، إضافة إلى صلاحيات أكبر لجهاز الرقابة المالية.
ومن أبرز العوامل السياسية، يمكن الوقوف أمام مسألتين؛ الأولى هي الانفتاح السياسي والقيام بإصلاحات ديموقراطية تنهي استئثار العائلة الحاكمة بحكم البلاد وإدارتها، وإنهاء التمييز الواقع ضد مواطني المنطقة الشرقية. والثانية هي خلافة الملك عبد الله.
الأمير طلال بن عبد العزيز، وهو أحد الأعضاء البارزين في العائلة المالكة السعودية، كان أول من حذّر من انتقال الاحتجاجات إلى المملكة إذا لم تشهد الإصلاحات الضرورية. وقال، في مقابلة مع تلفزيون «بي بي سي»، إنه «ما لم تحل المشاكل التي تواجهها المملكة، فإن ما حدث ويحدث في بلدان عربية أخرى، بما فيها البحرين المتاخمة، يمكن أن ينتقل إلى السعودية، بل أسوأ من ذلك».
وركّز الأمير طلال على الإصلاح السياسي، وطرح خطوات محددة من قبيل «تطوير مجلس الشورى، وإجراء انتخابات، وتطبيق حقوق الإنسان وحقوق المرأة». ووضع اليد على المكان الحساس حين قال إنها الأمور نفسها التي يؤمن بها الملك عبد الله بن عبد العزيز، ووصفه بأنه «الوحيد في الأسرة الحاكمة الذي يؤمن بهذه الإصلاحات والقادر على تنفيذها».
وذهب أبعد من ذلك حين أعلن تأييده لتطبيق الملكية الدستورية في السعودية، «ولكن ليس على الطراز الغربي، بل على غرار ما طبّق في دول مثل الكويت والبحرين والأردن».
وفي إشارة ذات دلالة بعيدة، قلل الأمير طلال من أهمية دور الدعم الأميركي في إبقاء حلفاء أميركا في المنطقة، كما حدث مع الرئيسين السابقين المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي، قائلاً «إن الدعم الداخلي هو الأهم».
معاندة رياح التغيير لن تكون نتائجها هذه المرة بسيطة على المملكة، التي شاخ فيها الصف الأول من الأمراء، ويرتقي الصف الثاني درج الشيخوخة كبندر بن سلطان وسعود الفيصل. ولذا يبدو خيار انتقال العرش إلى الجيل الثاني من الأمراء بمثابة حل وسط، لا من أجل تجديد شباب الحكم، بل من أجل حصول انتقال تدريجي يجنّب البلاد هزة عنيفة كما حصل في بلدان عربية كانت تبدو عصيّة على التغيير.
وترى الأجيال السعودية الجديدة أن ورقة الشرعية الدينية باتت عتيقة، ولم تعد قادرة على كبح توق السعوديين إلى التغيير، في بلد تمثّل فيه نسبة الشباب أكثر من 60 في المئة، ويعاني من مشاكل حادة، وتمييز سببه النظرة الجامدة لمؤسسة الجيل القديم، التي لا تزال تنظر إلى العالم من زاوية ثوابت ومرجعيات بدوية بائدة.