لقد استفذتني السيدة الشقراء هيلاري كلينتون إلى درجة لم أطيق معها صبراً ، فيوم الثلاثاء القادم بعيد جداً ، لذلك أستميحكم عذراً في هذا اللقاء الطارئ الذي فرضه أولئك الرجال الرجال في كنانة العرب ، أتحدث هنا عن الرجولة ، وليس عن الذكورة ، وتلك صفة تعوّد العرب أن يطلقونها على الشجعان من أبنائهم ، بغض النظر عن الجنس ، لقد دمعت عيناي بالأمس وأنا أستمع إلى تلك الشابة العربية الرائعة الشجاعة نوارة ، وإلى ذلك الشاب العربي الرائع عمار ، يطلان من إحدى المحطات الفضائية ، وهما على السجية يرسمان غداً عربياً مختلفاً ، ويستعجلان إنهاء اللقاء للعودة إلى صفوف الشباب الثائر في ميدان التحرير بالقاهرة لمواجهة هراوات الطاغية ورصاصه وقنابله ...
هاهي شمس تونس الحرية تسطع في سماء طيبة ، وتشعّ على بلاد الأجداد في اليمن ، وتنير أضرحة الشهداء المليون في الجزائر بعد عقود من ظلام الاستبداد ....
لتكن النتائج ، ما تكون ، لم أعد مهتماً لذلك ، فالحدث له ما بعده ، المهم أنني لا أنسى يوماً كان كل من أعرفهم يشفق عليّ من أوهام العروبة والوحدة العربية والهوية العربية ... حتى أن بعض الأخوة طالبني بالكف عن الكتابة في هذه المواضيع التي لم تعد تهم أحداً ، ومنذ شهر واحد فقط رفع أحدهم إصبعه في وجهي محذراً ، وهو يصيح ، بعد حفلة نقاش ساخنة : ما هي إلا أسابيع قليلة ، وستحلم يا حبيب عيسى بدولة تكون بحجم دولة ، من دول "سايكس – بيكو" التي قضيت عمرك تحلم بتجاوزها إلى "الدولة القومية العربية" ، هل ُيعقل أنك لا ترى ، ولا تشم رائحة الدول المذهبية والطائفية والأثنية التي تدق باب الشرق الأوسط لتقسيم تلك الدول ؟ ، هل تعتقد أن التقسيم الذي تم إشهاره في السودان هو الأخير ؟ ، أليس بداية لمواليد مسخ أخرى ، لا حصر لها ، قادمة بين المحيط والخليج ؟ وأضاف : إنني أشفق عليك يا رجل ، آن لك أن تفيق من الأوهام . يومها أجبته بهدوء : يا صاحبي ، إن "دول سايكس بيكو" غير مشروعة ، وما يتوالد منها بالتأكيد ليس شرعياً ، وهذه الأمة العربية ستعرف كيف تنهض ، وتتوحد ، وتشعّ نوراً على هذا العالم . قال : إنني أشفق عليك ، بالأمس ، وبعد حدث تونس ، وبينما كان الشعب العربي من المحيط إلى الخليج يحتضن بعيون دامعة الصبايا والشباب في ميدان التحرير بالقاهرة ، وهم يواجهون بشجاعة وتصميم آلة قمع الطاغية ، جاء صوته عبر الهاتف ، وهو يكاد يختنق من التأثر قال متلعثماً : أنا آسف . قالها ، وأغلق الخط ....
( 2 )
أعتذر عن هذه المقدمة التي طالت أكثر مما قدّرت ، فقد كنت عقدت مقارنة على "بساط الثلاثاء" بالأمس بين ثورة الحرية في تونس ، وبين ثورة الحرية في الكنانة 18 و 19 يناير ، جانفيه 1977 ، ففي تلك الأيام حرر الشعب العربي في مصر أرض الكنانة تماماً ، وهرب أنور السادات يحوم بطائرته من مكان إلى آخر ، لكن لم يجد الشعب من يمضي بالثورة إلى غايتها ، فعاد الشعب إلى المنازل ، مما أتاح للطاغية أن يعود إلى قصره ثم إلى "كامب ديفد" ، أما في تونس فقد فشلت محاولات إعادة الشعب إلى المنازل حتى بعد هروب الطاغية ، ومازال الشعب العربي في تونس يمسك بأوراق الحرية بثبات وصبر ، وهاهو الشعب العربي في الكنانة يعود بالأمس إلى ميدان التحرير في القاهرة ، وهو مصمم هذه المرة على أن يتمسك بأوراق الحرية هذه المرة حتى إلى ما بعد هروب حسني ، ورغم ذلك مازال هناك من يراهنني ، فكلما صدر خبر أن بوليس حسني فرق المتظاهرين تمطرني الهواتف : إلى متى يمكن أن يصمد أصحابك ؟ ، ألا ترى وحشية القمع ؟، لكنني قبلت الرهان ، وربما كان على النخب السياسية ، في مصر وفي غير مصر ، تلك النخب التي كانت تتوهم أنها متقدمة على الشعب ، أن تعيد حساباتها علهّا تلحق بالشعب بعد أن كانت إلى وقت قريب تتوهم أنها ستقوده .
( 3 )
نعود إلى السيدة الشقراء هيلاري كلنتون فقد قالت ، لا فض فوها : "أن حكومة حسني مبارك" مستقرة ، من تريدين أن تطمئني أيتها السيدة ؟ ، هل تريدين بث الطمأنينة في صفوف الصهاينة ؟ ، أم تريدين أن تبعثين الاطمئنان في نفسك القلقة ؟ أم أن الهدف كان طمأنة حسني وحسّه على الصمود ، حتى لا يفاجئكم أنه في إحدى الطائرات يبحث عن من يسمح له بالهبوط ؟ ، هذا حقك أيتها السيدة على أية حال ، نعم ، من حقك هذا القلق ، وأكثر ، لكن عليك أن تنتظري يوماً أسود ، كاليوم الذي مرّ على زميلتك وزيرة خارجية فرنسا عندما ناشدت الاتحاد الأوربي لدعم زين العابدين بالأمن والسلاح ، وهي حتى الآن لا تعرف كيف تخرج من ورطتها . على أية حال ، من حقكم أن تقلقوا على نظام حسني مبارك ، لكن ليس من حقكم بعد الآن التشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان ، فمن المهم بالنسبة إلينا يا سيدة هيلاري ، حسم قضية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في الوطن العربي من معها ؟ ، ومن ضدها ؟ ، فلقد أثبتت هذه الأيام الراهنة من تونس إلى القاهرة إلى الجزائر إلى اليمن إلى العراق إلى فلسطين ، أنكم ، وحلفائكم الأوربيين ، مع ديمقراطية زين العابدين بن علي ، وحسني مبارك وإلى آخرهم..... إضافة إلى الفتن المتنقلة التي تنتجونها في العراق وفلسطين والسودان ، تلك هي ديمقراطيتكم التي يواجهها الشعب العربي بمفهومه الإنساني للديمقراطية الحقيقية ، للحرية الحقة ، يواجهها الآن بالديمقراطية في تونس ، واليوم في مصر ، وغداً .... هذه هي ديمقراطيتنا ، وتلك هي ديمقراطيتكم ، وهما نقيضان لا يجتمعان في الوطن العربي ، لقد مرّت سنوات ساد فيها الكثير من الخلط المشبوه ، وُوضع مشروع التحرر والنهوض والتقدم والتنوير العربي بين كفي كماشة طغاة الداخل ، والقوى المتوحشة والمهيمنة من الخارج ، الآن ، آن للشعب العربي أن يتحرر من الطغاة والغزاة في وقت واحد ، فهما وجهان لعملة واحدة ، بينما الشعب العربي يسعى إلى الحرية ، وحمل مشاعل المساواة والعدالة والحقوق والتقدم والمساواة بين البشر ، ونبذ العنصرية ، بينما الطرف الآخر يريد لنا الرضوخ لنموذج بن علي وحسني مبارك والمستوطنات الصهيونية ، والنصر في النهاية لمن يستحقه .