أجل التحليل الموضوعى للواقع الليبي الراهن ، يلزم عرض (الوجه الآخر) للواقع ، مما لم يعرض له المحللون بما يكفي من الموضوعية . وفيما يلي نعرض لبعض معالم الوجه الآخر (المسكوت عنه)، حتى لو بدونا كأننا نسبح خارج التيار السائد، أو نغرد بعيداً عن السرب الطائر .
أولا : اختلاف الســـــــياق الليبي للثورة عن السياقين المصري والتونسي والذين برهنا على تشابه يدعو إلى الدهشة حقاً . ففي ليبيا نلحظ أن "الاحتجاج" أو "التظاهر" على الطريقة المصرية أو التونسية ، وخاصة في المنطقة الشرقية ، وحاضرتها بنغازي ، لم يستمر طويلاً، ربما استمر يوماً واحداً أو يومين ، وسرعان ما لحقه إلى جانب (الانقلاب الأمني) دخول مباشر في دوامة (العنف والعنف المضاد) عن طريق الصدامات المسلحة والدموية . وقد حدث ذلك بفعل واقعة لم تتوفر في تونس ومصر ، وهى الانشقاق الذاتي لأجهزة الأمن الداخلي والجيش ، بل وفي مؤسسة الحكم أيضا، وجهاز الدبلوماسية الخارجية .
ولعله هنا تكمن نقطة بارزة في التفارق بين حالة ليبيا وحالة كل من تونس ومصر. ، ففي البلدين الآخيرين ظلت المؤسسة العسكرية متماسكة جداً ، وتحركت تجاه الأحداث بوصفها "مؤسسة"، مما كان له أثره البالغ في تحديد مسار الأحداث التالية ، و أهم ما يميزه تلك السلاسة النسبية في التوجه نحو ما يسمى " الانتقال السلمي للسلطة " . أما في ليبيا فلم تكن هناك مؤسسات بالمعنى الصحيح في أي مجال، بما في ذلك المجال العسكري ، فكان من اليسير جداً انشقاقها وعودتها إلى "حالة الأصل" من حيث الانتماءات الشخصية والقبلية والمناطقية .. ولذا سرعان ما تحول الاحتجاج الواسع المتصاعد إلى استيلاء على مخازن السلاح والذخيرة ، وسيطرة على الأراضي ، وقدرة على الرد والردع بالقوة المسلحة ، مع دعم سياسي وتعبوي من القيادات السياسية المنشقة من داخل النظام .
ثانيا : اختلاف الأوزان النسبية والأدوار للقوى السياســية الإسلامية في أحداث ليبيا، عنها في كل من مصر وتونس . فرغم قوة تيار (الإخوان المسلمين) في مصر ، و(حركة النهضة) في تونس إلا أنهما حافظا على دعم المسيرة السلمية لانتقال السلطة ، بل وأعلنتا عدم نية أي منهما للترشح على مقعد رئاسة الجمهورية . أما في ليبيا فيبدو أن التيار السياسي الاسلامي – والذي يقول أنصار القذافي إنه مدعوم من " القاعدة " – قد أسهم بحركية نشيطة في عملية السيطرة على بعض أجزاء المناطق الشرقية ، وخاصة في مدينتي درنة والبيضاء، وهو ما ترك بصماته على "الخطاب الاعلامي والثقافي " في المدينتين، في لحظات معينة، وربما في غيرهما .
ثالثا : بروز الدور الأساسي للبث الفضائي وجهاز التليفزيون ، في الحالة الليبية، من حيث تعبئة الرأي العام المحلي والعربي والدولي ضد النظام الحاكم في ليبيا القذافي .. مقابل الدور الأساسى لـ "الإنترنت" وشبكات التواصل الاجتماعي مثل (فيـــس بوك) في حالتي مصر وتونس .
وقد قامت القنوات الفضائية – وخاصة من الإعلام الخليجي (الجزيرة و العربية) والإعلام الدولي (وخاصة "هيئة الإذاعة البريطانية" و"الحرة" الأمريكية وحتى "روسيا اليوم" و "فرنسا24 ") بأداء دور متساوق مع حركة الاحتجاج العنيفة والعارضة المسلحة، دون أن تترك أية فرصة حقيقية لنظام القذافي للدفاع عن نفسه . وظل الأمر على هذا الحال حتى بدأ السماح للمراسلين العرب والأجانب بالدخول وتغطية الأحداث من الجانب الرسمي، اعتبارا من 26/2/2011 تقريباً ، ولكن بدون "توازن" في عملية التغطية المهنية .
ولهذا يمكن القول إن الإعلام الفضائي الخليجي والغربي كان شريكا مباشراً فى صنع الأحداث ، وليس مجرد الإخبار عنها ، وذلك في غير مصلحة نظام القذافي بطبيعة الحال .
رابعا : دور العامل الخارجي
بدت القوى الخارجية، وخاصة الغربية (أوروبا – أمريكا) حائرة ومرتبكة خلال الأيام الأولى للأحداث الليبية، ولكن مع ظهور العلامات الأكيدة على حدوث انشقاق خطير داخل النظام ، وخروج المنطقة الشرقية من قبضته تماماً ، واهتزاز الوضع السياسي والأمني في غرب البلاد والوسط ، أخذت دول التحالف الغربي تجمع أمرها على إرغام نظام القذافي على الاستسلام، و خاصة فى 25 و26/2/2011 .
وبغض النظر عن (سيناريو الغزو الأمريكي للعراق) والذي يبدو غير متصور في حالة ليبيا الراهنة، وإن بدت بعض تفاصيله محتملة ، مثل ترحيب (معارضة الخارج) بالتدخل الأجنبي للخلاص من حاكم مستبد – فإن هناك عدة (سيناريوهات) محتملة من الجانب الغربي لتطور الأزمة الليبية، وظهر السيناريو الأقرب لفكر التحالف الغربي على أنه مزيج من عدة مشاهد هي :
أ – (المشهد السوداني – الدارفوري) القائم على الإحالة للمحكمة الجنائية الدولية وإصدار أمر من مدعى عام المحكمة بالقبض على رؤوس النظام العليا، بالإضافة إلى دعم قوة المعارضة المسلحة بكل ما يلزم، وربما إرسال قوة "حفظ السلام" إلى ليبيا كقوة هجين من أفريقيا والعالم الخارجي ، بموافقة من مجلس الأمن، تحت طائلة "الفصل السابع" من ميثاق الأمم المتحدة، والذى سبق إشهاره في عدة حالات غنية عن البيان، وسبق إشهاره ضد النظام الليبي نفسه بمناسبة (أحداث لوكيربي) .
ب- المشهد الخاص بيوغوسلافيا السابقة وصربيا ، أي تجهيز قوة التدخل العسكري من حلف الأطلنطي دون انتظار للأمم المتحدة ، إن تبينت صعوبة هذا التدخل من جانب مجلس الأمن؛ هذا بالإضافة إلى سمة أخرى من سمات ذلك المشهد ، بالتشجيع على تفكك الدولة. وكما تجزأت يوغوسلافيا، فإن ليبيا قابلة جغرافيا وسياسياً للإنشطار بكل سهولة – نسبياً – إلى دويلات منفصلة في كل من الشرق والغرب والجنوب .
ج- المشهد العراقي في عهد صدام حسين ، وذلك بفرض منطقة لحظر الطيران فوق ليبيا كلها أو بعض مناطقها .
د- المشهد الصومالي من زاوية معينة، هي السماح بانفصال فعلي للمنطقة الشرقية مثلاً ، أو جزء منها ، وتكوين حكومة فيها (مؤقتة أو غير مؤقتة) وجلب اعتراف فعلي بها De facto مثل : (جمهورية أرض الصومال) وربما اعتراف قانوني De Jure من البعض .
هـ- يضيف بعض معارضي النظام "تفصيلة طريفة" مستمدة من الخبرة الأمريكية للتعامل مع حاكم بناما الأسبق ( نورييجا) والذي تم اختطافه من بلده ومحاكمته في الولايات المتحدة والحكم عليه بالسجن هناك .. مما يضيف مهزلة أخرى إلى مهازل المشاهد المحتملة.
وبصدور قرار مجلس الأمن في 27 /2/2011 بفرض عقوبات مالية ، ومنع القائد الليبي و بعض أبنائه ورجاله من السفر، مع الإذن بالإحالة الى المحكمة الجنائية الدولية و إبلاغ "الشرطة الدولية"– ثم بإعلان بعض قادة بنغازي حكومة مؤقتة برئاسة وزير العدل الليبي السابق ، ثم تشكيل"مجلس انتقالي"، وتأكيد وزيرة الخارجية الأمريكية أنهم على اتصال بالمنطقة الشرقية وعلى استعداد لتقديم الدعم الضروري – بكل ذلك ، أصبحت أرضية الواقع الليبي مجهزة لنفاذ مشهد مركب من المشاهد السابقة ، لا نعلم ملامحه بالتفصيل الآن .
ولئن كان نظام القذافي مسئولاً عن الظروف التي سهلت للقوى الأجنبية تدخلها ، فإن هذه القوى الغربية تحديداً ، وخاصة محور "أوروبا – أمريكا" ، ويجمعهما عسكرياً "حلف الأطلنطي"، هي القوى المسئولة مباشرة عما سوف يلحق بليبيا من تدمير خلال المرحلة القادمة سعياً إلى السيطرة على النفط الليبي والتحكم في مصادر القوة "الجيوبوليتكية" لليبيا في الإطار العربي والأفريقي . وندعو الله أن يجنب ليبيا الشقيقة كل مكروه، وأن يلهم أبناءها جميعاً القدرة على تجاوز الأزمة الراهنة بأقل قدر من الخسائر على الأرض والشعب . ولتكن مصالحة وطنية شاملة، تقيم نظاما سياسيا جديدا تماما، نظاما جمهوريا برلمانيا عصريا، هي المدخل الحقيقي لبناء ليبيا الجديدة، على أساس توافقي حقيقي بين الجميع .