د بدأت مصر فى عام 1971، وخاصة منذ 1974 ، عهداً سياسياً واقتصادياً مختلفاً عما سبقه، وذلك فى ظل حكم السادات (71-81) ومبارك (1981-2010) ، حيث تم تطبيق السياسة الاقتصادية المسماة بالانفتاح الاقتصادى والتى فهمت مصطلح "الحرية" فهماً محدداً، يقوم على دعامتين :
1- حرية الحركة لرأس المال الخاص، المحلى والعربى والأجنبى .
2- حرية تحديد (أسعار) المنتجات وعوامل الانتاج من خلال التفاعل التلقائى لقوى السوق أى العرض والطلب ، بدون تدخل جدى من جهاز الدولة.
ولكن حرية الحركة لرأس المال الخاص – الكبير أساساً - فهمت بمقتضى الانفتاح الاقتصادى على أنها نقيض التخطيط القومى، فترك الحبل على الغارب لأصحاب رأس المال المذكور، وقاموا بتوجيهه إلى المجالات والأنشطة الأكثر تعظيماً للأرباح الخاصة، وكانت النتيجة إهمالاً منهجياً متواصلاً للقطاعات السلعية من الاقتصاد ، وخاصة الزراعة والصناعة التحويلية ـ وتركيزاً على خدمات التجارة والمال والعقارات. كما تم تشجيع هجرة العمالة المصرية إلى الخارج (ليبيا ودول الخليج العربى) للتخلص من عبئها الداخلى والاستفادة من تحويلاتها المالية التى أخذت تصب فى نفس المسار المشوه المذكور .
أما حرية السوق فقد فهمت فى ظل الانفتاح الاقتصادى باعتبارها نقيضاً للدور الاقتصادى والاجتماعى للدولة، وكانت النتيجة انسحاب الدولة من واجباتها فى توجيه حركة الاقتصاد وضبط الأسواق ، فسادت فوضى النشاط الخاص وتحللت الأسعار من القيود بصورة متصاعدة . ومع الحرية الخاصة كان هناك أمران متلازمان :
1- تفكيك القطاع العام وبيع الجزء الأكبر من شركاته.
2- الاختلال الفادح في التوازن بين الأجور والأسعار مما أدى الى خفض الدخل الحقيقي للمشتغلين بالأجر في القطاعين العام والخاص ، وخاصة في الجهات الحكومية، في ظل انفلات الأسعار بفعل فوضي الأسواق المصاحبة للانفتاح الاقتصادى. ومع اختلال العلاقة بين الأجور والأسعار لم تحدث زيادة في الانتاجية تعوض ارتفاعات التكلفة وتصاعد الأسعار الجارية للسلع والخدمات .
ولقد تمثل الحصاد المر للأمرين السابقين في تفجر انتفاضة الغضب الشعبي في 18 و19 يناير 1977. وبرغم اضطرار النظام الحاكم حينئذ الى "سحب" ارتفاعات الأسعار وقيام رأس النظام بزيارة إسرائيل وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد وما تلاها خلال 1978-1979 ومن ثم توقف حالة الحرب قانونياً وفعلياً- رغم كل ذلك فقد بقيت الحالة الاقتصادية كما هي طوال عهد السادات والثلث الأول من عهد مبارك ، اى عموماً من عام 1971 حتى 1991. وجرى توقيع اتفاق مهم بين الحكومة المصرية وصندوق النقد الدولى فى مايو 1991، تم بمقتضاه التوافق على حزمة من السياسات الاقتصادية يجمعها "برنامج التثبيت والتكيف الهيكلى" . وخلال الفترة من 1991 حتى عام 1998-1999 تقريبا، أخذ يتحقق شىء من التوازن فى الموازين الإسمية للاقتصاد (وخاصة الميزانية العامة وميزان المدفوعات وميزانية النقد الأجنبى) انطلاقاً من خفض الانفاق الحكومى فى المجال الاجتماعى الموجه للشرائح الفقيرة من المجتمع، وخاصة فى قطاعات التعليم والصحة، بالإضافة إلى بيع شركات القطاع العام للتخلص من خسائرها الإجبارية، وكذا خفض الواردات، بما فيها واردات السلع الأساسية والسلع الوسيطة والرأسمالية (الآلات والمعدات) اللازمة لدوران عجلة الجهاز الإنتاجي. وأدى هذا التوازن (الإسمى) إلى تعميق الاختلال فى الموازين العينية أو الحقيقية للاقتصاد ، من خلال الإهمال (المتعمد) للزراعة والصناعة التحويلية والخدمات العلمية – التكنولوجية .
... واعتباراً من أواخرعام 1999 وبدايات عام 2000 ولمدة خمس سنوات تقريباً – حتى 2004 – جرت محاولة دفع عجلة النمو الاقتصادى المتباطئة بل والمستعصية، من خلال:
1- خفض قيمة الجنيه المصرى (سعر صرف العملة المحلية) بدعوى زيادة الصادرات ، ولكن هذا الخفض لم يؤد إلى رفع الصادرات ، بل زاد من تكلفة الواردات الأساسية ، ورفع من تكلفة الائتمان الممنوح بالعملات الأجنبية.
2- ارتفاع مستوى الديون العامة المحلية ، بفعل اقتراض الحكومة من الجهاز المصرفى ومن صناديق التأمين والمعاشات، لتمويل مشروعات البنية الأساسية ، التى توسعت فى نطاق القاهرة الكبرى توسعاً هائلاً، دون أن توازيها توسعات فى الطاقة الانتاجية للمشروعات الخاصة والعامة فى القطاعات السلعية ، وخاصة الزراعية والصناعية ، وفى قطاع الخدمات العلمية – التكنولوجية .
ولما تبين الأثر السلبى لسياسة سعر الصرف والدين العام على النمو الاقتصادى ، جاءت (حكومة رجال الأعمال) فى عام 2004 لتفتح مرحلة أخرى استمرت حتى أواخر 2008 ، تاريخ تفجر الأزمة المالية العالمية . وفى السنوات الخمسة المذكورة تقريباً ، توفرت مجموعة من الظروف الخارجية المواتية للاقتصاد المصرى، وكانت النتيجة ارتفاعاً عاما فى معدل النمو الاقتصادى الكلى السنوى ، قدر بنحو 7% . ولكن هذا المعدل خالطه أمران أساسيان : الأمر الأول، تركُز النمو فى القطاعات غير السلعية وخاصة الزراعة والصناعة التحويلية ، حيث تمثلت القطاعات القائدة للنمو فى الإسكان والبناء والعقارات وفى السياحة الأجنبية ، والاتصالات الهاتفية المحمولة .. ومن خلال النمو الانفجارى وذى الطابع القطاعى فى الأنشطة الاقتصادية لهذه القطاعات ، تراكمت ثروات هائلة لحفنة أو (حفنات) من رجال الأعمال الكبار الذين استفادوا من تخصيص الأراضى بأسعار زهيدة جداً وبغير سعر تقريبا للمتر المربع من هذه الأراضى فى المناطق البعيدة عن مركز العمران الراهن للقاهرة والمدن الكبرى ، والتى تحولت الى منتجعات لرجال الأعمال ..!
أما الأمر الثانى فهو أن النمو الاقتصادى على المستوى الكلى لم يصاحبه تحسن مناظر فى مستويات المعيشة للغالبية الاجتماعية، بل وأدى انفلات معدل التضخم السعرى إلى الإساءة لمستويات المعيشة لشرائح اجتماعية واسعة، وتعمقت فجوة التفاوت في توزيع الدخول والثروات عبر الزمن. ثم جاءت الأزمة المالية العامة (2008-2010) لتفاقم من أثر النمو المشوه ، عن طريق تسارع ارتفاع معدل التضخم السعرى ، وتزايد معدل بطالة الخريجين ، والثبات النسبى لمستويات الأجور، إلى جانب التراكم غير المبرر للثروات لدى الدوائر الضيقة من فئة (رجال الأعمال) المرتبطة عضوياً مع شبكة السلطة السياسية فى أعلى مستوياتها داخل مؤسسة الرئاسة وأمانة الحزب الحاكم ، وما تلاهما فى دوائر السلطة التنفيذية و"المحليات".
أما فى المجال الخارجى، فإن "الحرية الاقتصادية" تمثلت فى "التخلص من قيود" التصدير والاستيراد، حيث فتح الباب لرجال الأعمال من أجل تصدير منتجاتهم، واستيراد مستلزمات "الانتاج والآلات والمعدات اللازمة لهم . كما قامت الدولة بالتخلى عن هدف إقامة قواعد استراتيجية للزراعة والصناعة والتكنولوجيا، وعن هدف توفير "الحماية" اللازمة لها ، وسمحت لقوى السوق "الفوضوية " داخلياً وخارجياً بتحديد ما يصّدر ولا يصّدر ، وما يستورد وما لا يستورد، دون النظر إلى الاعتبارات الاستراتيجية العليا فى الأجل الطويل .
وكان من نتائج ذلك : الانصراف عن زراعة القمح والمحاصيل الغذائية الأساسية، وقل مثل ذلك عن القطن.
أما فى المجال الصناعى ، فحّدث ولا حرج..! ، حيث تم استيراد (التكنولوجيا) من الخارج، بحجة حرية التجارة الخارجية، وكذا استيراد السلع المصنعة والأجهزة والآلات الصناعية، والسيارات ومعدات النقل، محققة أرباحاً قياسية للمستوردين وأصحاب مصانع التجميع . وفى المقابل ، وباسم حرية التجارة أيضا، عزفت الدولة عن تشجيع اقامة صناعات وطنية فى تلك المجالات كافة، وعن الاستفادة من القدرات المحلية للبحث العلمى والتطوير التكنولوجى ومن شبكات آلاف المنتجين والحرفيين والموردين لإمداد المصانع الوطنية – كما يجب أن يكون – باحتياجاتها من السلع الوسيطة والأجزاء وقطع الغيار والمكونات الأساسية .
وهكذا كانت النتيجة افتقاد قاعدة زراعية وصناعية وتكنولوجية وطنية ، من منظور استراتيجى، بينما امتلأت البلاد بالسلع المستوردة من كل حدب وصوب ، وبالقمح المستورد ، والغزل والنسيج المستورد، دون القيام بمسعى حقيقى للانتاج المحلى البديل للاستيراد ، والملبى للاحتياجات الاجتماعية الأساسية للسكان فى جميع المجالات .
تلك إذن بعض الثمار المرة لدعوى الحرية الاقتصادية داخليا وخارجيا خلال أربعين عاماً (1971-2011) ، مصداقاً للقولة الشهيرة : (أيتها الحرية ، كم من الجرائم ترتكب باسمك). فكيف ينبغى أن نفهم الحرية فى أجواء ثورة 25 يناير المباركة ؟