في سورية اليوم طيف اسمه الحرية يهيمن على كل أرجاء الوطن، ورياح التغيير التي هبت في الشهور الثلاثة الأخيرة على كل العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، لا يمكن لها في النهاية إلا أن تطرق باب السجن السوري الكبير. فنحن لا نعيش في جزيرة معزولة، والتاريخ لن يتوقف عند أعتاب دولتنا العتيدة.لقد سقط حاجز الخوف الذي جثم على كاهل الشعوب العربية لعقود طويلة، وانطوى معه نصف قرن، طويل ومديد، من الإنقلابات العسكرية وتسلط الجيش على السياسة ومصادرة الحريات العامة وممارسة الوصاية على الناس، تارة بإسم التقدم والإشتراكية، وتارة بإسم الدين، وتارة أخرى بإسم الإستقرار ومحاربة التطرف الإسلامي.التغيير آت لا محالة، وسورية لم ولن تكون أبداً الإستثناء. أما التخويف من الفوضى والحرب الأهلية، والتخويف من وصول الإسلاميين إلى الحكم، والتخويف من أن شعبنا غير مؤهل بعد للممارسة تجربته الديموقراطية، فهذه كلها إدعاءات لن تجدي نفعاً عندما تدق ساعة الحقيقة ويستعيد الناس زمام المبادرة.إن الشعب السوري بلغ سن الرشد، وعلى سلطته أن تعي ذلك قبل فوات الأوان. فالمطلوب اليوم ليس خطوات تجميلية على الصعيد الإقتصادي والمعيشي، بقدر ما أن المطلوب خطوات جدية وواضحة المعالم لنقل سورية بشكل سلمي من الإستبداد إلى الديموقراطية. خطوات قلناها وكررناها مراراً، مثل الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإلغاء حالة الطوارئ، وشرعنة التعددية الحزبية، وترسيخ مبدأ فصل السلطات، واستقلالية القضاء، وطي صفحة الحزب القائد، وتحقيق المساواة بين المواطنين دون أي إقصاء أو تمييز. فبمثل هذه الخطوات، لا بالمزيد من القمع وكم الأفواه ومسرحيات التأييد الجوفاء، يمكن للسلطة السورية، إن هي أرادت ووعت، أن تستبق التغيير وتتحضر له.لقد غيّر الخوف من وجهته، وانتقل من طرف الشعب إلى طرف السلطة. أما من يحذّر من القلاقل والفوضى، ويهوّل بتفكك الدولة وتفسخ النسيج الوطني، ويجهد للمحافظة على هذا الإستقرار الإستبدادي الكاذب بأي ثمن، فإننا نذكّره بأن الشعب السوري منذ بداية تاريخه الحديث ، استطاع أن يتجاوز، بوحدة أبنائه ونضالهم المشترك، الانقسامات المذهبية والدويلات المصطنعة التي فرضها عليه المستعمر الفرنسي، وتمكن في النهاية أن ينال استقلاله الكامل بضريبة الدم التي دفعها من خيرة أبنائه. لا بل أن هذا الشعب تمكن بوعيه وحكمته أن يبعد مخاطر الحرب الأهلية التي كاد يجره إليها عنف السلطة وتهور بعض الجماعات الإسلامية المسلحة. لقد قالوا بالإشتراكية فجلبوا الجوع والفقر. ووعدونا بتحرير فلسطين، فأتوا بالذل والهوان. وتغنوا بالحرية والعدالة، فشيدوا السجون والمعتقلات. واليوم، إذا كان تفشي الظلم والعوز والفساد ووطأة الإستبداد لا يستثني أحداً من أبناء الشعب السوري،على تعدد مشاربهم وانتماءاتهم، فإن هذا الشعب قادر وعازم على استعادة حريته المسلوبة، وصون وحدته الوطنية، وحماية كيان دولته السورية.إن الملايين التي تواجه اليوم بصمتها عسف الاستبداد وجبروته، في دمشق وحلب، في اللاذقية وطرطوس، في حمص وحماه، في القامشلي ودير الزور، في حوران وجبل العرب، لن تلبث أن تخرج عن صمتها وتواجه هذا الاستبداد بوقفاتها الاحتجاجية وتحركاتها السلمية، مستندة إلى تضامن أبناء المجتمع السوري وتكاتف الجيش مع الشعب. ومخطئ من يراهن أن الناس ستنزلق إلى العنف، أو أن الجيش سيوجه فوهات بنادقه إلى صدور الشعب السوري. لقد ولى زمن "معادلة مدينة حماه"، فلا الشعب ولا الجيش سيسمحان لأحد أن يسجنهما فيها من جديد. وليعِ كل من يحاول أن يصطاد في الماء العكر، أن الجيش من الشعب والشعب من الجيش، فداخل كل دبابة هناك حفيد من أحفاد يوسف العظمة، وعلى زناد كل بندقية يقبض ابن من أبناء وحدات الإنزال على مرصد جبل الشيخ.لست أنا، اليوم، في موقع من يقترح الحلول ويضع السيناريوهات المستقبلية. فالتغيير آت بعزيمة الشباب وهمتهم، ليس فقط لأنهم يشكلون أغلبية المجتمع السوري، ولكن لأنهم أثبتوا أنهم أكثر وعياً لمتطلبات العصر من أحزاب المعارضة ورجال السياسة، الذين لا يزال الكثيرون منهم مكبلين بخطابهم التقليدي وممارساتهم البالية، يكاد الرقيب الأمني لا يغادر أدمغتهم أبداً.كل ما اعرفه اليوم أن سورية لن تبقى مملكة الصمت، ولن يبقى الخوف مطبقا على الصدور، ولن يبقى الوطن سجنا كبيراً.نعم "الشعب السوري ما بينذل"، كما هتف متظاهرون في قلب دمشق قبل أيام، وهو يريد الحياة الكريمة، ومن إرادته سينبثق فجر الحرية وستولد سورية الجديدة.نعم "سورية الله حاميها" لأنها باقية بشعبها وجيشها ودولتها. أما الإستبداد فإلى زوال، قصر الزمن أو طال، وإن غداً لناظره لقريب.
(*) سياسي سوري وعضو قيادة حزب الشعب الديمقراطي وإعلان دمشق.