قدر لي أن التقي يمانيين في عديد من المواقع في أرض العرب الواسعة إلا اليمن، والتي لم يقيد لي رؤيتها إلا لاحقاً في بداية العقد الأخير، أتاحه لي حضوري لمؤتمر ضد التطبيع عقد في صنعاء، المدة كانت لا تتجاوز الخمسة أيام، وكانت أول وآخر مرة أزور فيها اليمن، زيارة رأيت فيها المؤتمرين أكثر من رؤيتي لليمن... لكن ما قبل هذه الزيارة وبعدها ظل اليمن يمني أنا الذي ترعرع معي وازداد في نفسي تمكناً. وأزعم أن لدي معرفة غير قليلة باليمن تعدت الجغرافيا والتاريخ إلى تفاصيل القبائل وتفرعاتها العديدة، وحتى لهجاتها، فأفرق مثلاً بين لهجة خولان وتلك التي تسمعها في زبيد أو الحجرية أو المكلا، واحفظ أمثالاً شعبية حضرمية ونوادر تهامية وقليلاً من الشعر اليمني العامي. لدرجة أنني كنت أمازح اليمانيين الذين كان العديد منهم في السبعينات يشارك في النضال الفلسطيني سارداً عليهم نوادرهم مقلداً لهجاتهم. وفيما بعد كان صديقي القيادي الناصري اليمني عبد الملك المخلافي يناديني بأبو يمن، وكثير من اليمانيين كانت تخدعهم ملامحي الحضرمية فيظنونني حضرمياً، والبعض يشتبه بأنني من أهل البيضا... وهنا أسرد لكم حادثة:
في نهاية الستينات، كنت في عمّان، حيث دهمنا شتاؤها القارس، الأمر الذي أجبرني أنا وشقيقي، الذي استشهد فيما بعد، إلى التجوال في أسواق المدينة بحثاً عن معطفين يقيانا برودة شتاء ذلك العام، ولما كانت نقودنا شحيحة انتهينا إلى ما يعرف بسوق اليمنيين، وهم لاجئون فلسطينيون من أصل يمني، جاؤوا لفلسطين في المنتصف الأول من القرن الماضي للعمل مثل كثير من العرب في ذلك الحين، ثم بعد النكبة هاجروا مع من هاجر من أهلها إلى الأردن... في السوق كانت تباع الملابس المستعملة وكانت هذه ما تسمح لنا بشرائها نقودنا. كان صاحب المحل مشغولاً بالزبائن وكان من الصعب علي الاستفراد بانتباهه، ولما فرغ سألته عن سعر ما اخترناه ذكر لي رقماً جعلني استدير مبتعداً يائساً، وإذ لاحظت ضيقاً وإحساساً بالخيبة ألم بأخي قلت له مشجعاً، انتظر وسوف أريك، وعدت صائحاً:
هيا يا خبيري أدي لنا هذا البالطو... خبيري هذه في شمال اليمن وحول صنعاء تعني صديقي، وهي، بالمناسبة ، تستعمل في العبرية أيضاً وبنفس المعنى.
ولم يكتم أخي دهشته باسماً عندما رأى أن صاحب المحل انتفض وهو يرد على صيحتي بصيحة مثلها: أنت يمني يا أخي؟ قلت لا، فصاح مرة أخرى : سألتك بالله يا أخي أنت يمني؟ قلت مؤكداً: لا والله. قال : إذن، أوتعرف اليمن؟
عندها مازحته، قلت: وأعرف سوق الملح في صنعاء وسوق البسباس (الفلفل) في القاعدة!
وتجاذبنا الحديث بمرح، وقد نسي البائع زبائنه إلى حين، أكدت له أنني لم أرَ اليمن في حياتي، اعني حتى تلك الفترة... وغادرته حاملاً أنا وأخي ما وقانا برد شتاء ذلك العام، وكان بما لا يزيد عن ثلث الثمن الذي سمعته منه أول مرة!
هذه الأيام، وأنا اتابع ما يدور في ميدان التغيير في صنعاء وسائر مدن يمننا المنتفض، اتذكر أولئك اليمنيين، الذين استشهدوا في الجنوب اللبناني دفاعاً عن القضية العربية المركزية، وأتذكر أن هنالك منهم الأسرى في سجون أعداء العرب حتى الآن... واتذكر، فيما اتذكر، القائد الفلسطيني الراحل الذي أطلق عليه المناضلون ضمير فلسطين أبو ماهر اليماني، الذي قد تصادف في كل شارع من شوارع اليمن ما يذكرك بسحنته الطيبة الودودة... أذكر الأنفة اليمنية، واتذكر أن القبلي في الشمال عندما يستثار يقول مفاخراً، ابن الرحوب لا قلها (لو قال لها) دوري دارت، ويعني الدنيا... والرحوب هي أرحب التي تنحدر منها قبيلتا حاشد وبكيل الكبريان... واتذكر، وأنا أراقب الصراع بين ميداني التغيير والسبعين، بين اليمن المستقبل واليمن الاستبداد، ما يذكرني بما كان يحدث إبان الأيام الأولى لثورة اليمن على أسرة حميد الدين. كان قبائليو خولان الطيال قد انقسموا في العائلة الواحدة، الشباب مع الثورة والشيب مع الإمام، لأن الكهول كانوا قد عاهدوا الإمام يحيى على مبايعة ولي عهده البدر... كان الشباب الجمهوريون يتمركزون على قمة جبل يفصله وادي عميق عن قمة أخرى يرابط عليها الشيوخ الملكيون، كان الأب الغاضب المحافظ على العهد يصيح في ابنه العاق الثائر في الطرف الآخر: ميلك يا عاصي جدتك، فيرد عليه ابنه: جمهر يا شيبة إبليس، ويبدأ تبادل إطلاق النار بينهما..!
وعندما أتابع ما يجري في اليمن هذا المتحول من أقصاه إلى أقصاه إلى ميادين تغيير، اتذكر أول انطباعاتي عن اليمنيين عندما تعرفت إليهم لأول مرة. كنت احس أنه، برغم عقود الجهل والتجهيل التي فرضت عليهم طويلاً، فإن في اليمني ما يدفعك للاحساس بأثر جلي لموروث حضاري عريق كامن في الشخصية اليمنية، إنه موروث بدأ باقيال حمير وملوك سبأ، وانتهى بالبردوني... وعندما اسمع وأقرأ شعارات منتفضي اليمن السلمية، تزداد يمنيتي التي شبّت وشابت معي، وأفاخر بأنني من أمة يتمتع فيها شعب هذا الجزء من بلادها بكل هذا المستوى العالي من الوعي النضالي الرائع، هذا الذي يحرك ويوجه هذه الإرادة الشعبية التغييرية السلمية العظيمة... كلنا نعرف أننا في اليمن إزاء شعب مسلح، واليمني يستحي أن يسير دون امتشاق سلاحه، ونعلم أن في اليمن، كما يقال، ما يزيد عن الستين مليون قطعة سلاح، وأن السلاح الفردي في هذه الغابة الشعبية المسلحة هو لا يقتصر على النوع الخفيف، بل يصل إلى المتوسط، كالهاون، وقاذف RBJ، وحتى مضادات الدبابات والطائرات، ولدى القبائل ما يزيد ثقلاً... ومع هذا، فثوار ميادين التغيير اليمنية المليونية نزعوا لحكمتهم الثورية سلاحهم ليصبحوا وهم عزلاً الأقوى من تراسانات النظام وآلته العسكرية... لهذا الوعي، وهذه الإرادة المذهلة، والادراك السليم لطبيعة الصراع وسبل حسمه حضارياً، وأعترف أن فيهما، رغم معرفتي المزعومة باليمنيين، ما يمثل المفاجئة بالنسبة لي، أقول:
لكل هذا سوف ينتصر شعبنا العربي في اليمن، وسيكون له نصيبه المميز من فوز مجيد في هذه الثورة العربية الفريدة. ستكون صنعاء هي الثالثة ترتيباً بعد تونس والقاهرة... ولهذا سوف نظل كعرب نردد: اليمن يمان والحكمة (الثورية) يمانية... ونظل نقول: بأن يمننا أصلنا... في هذه المرحلة المصيرية، ليحفظ الله اليمن.