قالت والدة البوعزيزى إنها ليست حزينة لأن ابنها أضاء الكون. ربما كانت تقول إنه حمل الشعلة لينير الطريق لكل المظلومين فى العالم وأولهم نحن.. نحن القابضون على الجمر المعتصمون بالصبر حتى تعب الصبر من صبرنا...
ها هى مدن وعواصم العرب تضىء مستقبلها بخيرة شبابها، ها هى تستعيد كرامتها وإرادتها وكثيرا من عطر أيامها التى ضاعت فى زحمة الفساد والقمع والغرف السوداء حيث يختفى أو يتلاشى الكثيرون.
عند دخول تونس أو القاهرة وأخواتهن من المدن العربية تنتابك مشاعر جديدة.. كنت قد عرفت هذه المدن بكثير من تفاصيل أجسادها ولكنك اليوم تتعرف عليها من جديد لتعشقها أكثر..
تبدو لك هذه المدن وكأنها قد استرجعت روحها المسلوبة منذ سنين طويلة..
كم سنة هى؟
تتفاوت ولكن فى مجملها هى الأطول فى عمر التواريخ الحديثة..
كانوا يقولون لقد سبقتكم الدول وراحت تخيط تفاصيل دساتيرها وتشريعاتها وتعيد لشعوبها حريتهم وحقوقهم وكرامتهم.. فما بالكم لا تزالون تتوسدون الاسترخاء فى عفن الطغيان؟
لم يدرك أحد فى هذا الكون أنها شعوب تخزن ثورتها حتى النضج لتقدم دروسا لكل سكان الكون "كما قال كثير من زعماء الدول" هى شعوب عندما تنتفض لكرامتها تدفع أثمانا باهضة وتوجد الملاحم الأولى فى الحرف الأول للدرس الأول فى فن انتفاضة الشعوب على الطغيان والظلم والفساد والقهر.
هم، أى: التونسيون والمصريون والليبيون وغيرهم من عشاق هذه الأرض لم يكتفوا بإعادة الروح لمدنهم الميتة بل راحوا يزينونها احتفالا بالقادم.. رغم أنهم يدركون أن الطريق لا يزال طويلا للاغتسال الكامل من زمن طال حتى أصبح هو الماضى والحاضر وكل ما تتذكره تلك الأجيال التى انتفضت أولا وبطريقتها الخاصة عبر شبكات تواصلها المعتادة..
لم تستخدم أساليبهم ولكنها استكملت مشاوير طويلة من العذابات والمعاناة وطرق كان قد سار عليها كثير من الشهداء.
هنا مدارس جديدة فى مدن الفرح والكرامة القادمة.. هى التى يرسلون بصورها إلى المقموعين خلف الجدران المظلمة فى آسيا وأفريقيا.. يسقونهم الدرس الأول فى الثورة كيف تبدأ وكيف تنظم نفسك فى الميدان..
ميدان التحرير.. وميادين الحرية فى كل مدن العرب..
كيف تقف على التفاصيل الصغيرة وكيف تغير صورا نمطية لطالما لزقت بهذا الشعب أو ذاك.. هى شعوب عرفت تماما أنه عندما قضى على المواطنية بحقوقها وواجباتها فقد كان قد قضى على روح البلد كله..
شعوب سلبت أرواحها وسرقت الفرحة والنكتة التى كانت لا تفارقها حتى غطس الجميع فى متاهات اللحظة.
مدارس الثورة إذن ليست لدروس فى السياسة، بل فى الأخلاق والقيم وأهم من كل ذلك فى حب الوطن..
كيف تحب وطنك بحق؟
هو درسها الأول فأن تحبه هو أن تبدأ بأن تزيل عنه غبار وعفن السنين الماضية وأن تزينه والأكثر من ذلك أن تقدم روحك له لأنك تحب الحياة حتى الموت..
هو حب الحياة الكريمة الذى جعل هذا الشاب أو الشابة فى هذا البلد أو ذاك يتقدم الجمع ليقف عارى الصدر أمام تلك المدرعة أو ذاك الحشد من رجال الأمن..
أن يتصدى لحجارتهم ورصاصهم بهمسته "سلمية سلمية".
أن يقول بأننى لا أحب الدم ولا إراقة أى قطرة منه ولكنى مستعد أن أروى أرضى به.
ما زالت دروس الثورات لم تكتمل بعد..
ما زال هناك الكثيرون فى مدن أخرى تنتظر أن تضيف لكم أنتم السابقون فى تونس ومصر وأولئك المقاتلون ببسالة فى ليبيا الصمود..
هو فجر قادم حتما بعضهم يعمل على تأخيره بعض الشىء ولكن هل يستطيع أحد ما أن يؤخر موعد النهارات المشرقة؟