Wednesday, February 16, 2011

طلّ الملوحي وبشار الأسد: لا عزاء لخائبي الرجاء :صبحي حديدي



الآن وقد صدر ـ عن محكمة أمن الدولة، سيئة الصيت وحاوية أبشع وأقذر مهازل الإستبداد في سورية المعاصرة ـ حكم بالسجن خمس سنوات على المدوّنة السورية الشابة طلّ الملوحي، لا بدّ من وقفة، سياسية وأخلاقية وسلوكية، ليس إزاء نظام الإستبداد والفساد والحكم العائلي المافيوزي الذي يحكم سورية منذ انقلاب "الحركة التصحيحية"، سنة 1970، فحسب؛ بل كذلك حول أنساق الصمت، لكي لا يتحدّث المرء عن أنماط التراجع والمراجعة، لدى اللواتي والذين كان الواجب البسيط يقتضي انخراطهم في تقصيّ قضية هذه الصبية، والوقوف إلى جانب الحدّ الأدنى البسيط من الحقّ والحقيقة.
بادىء ذي بدء، لا عزاء لخائبي الرجاء الذين راهنوا على أنّ بشار الأسد سوف يأخذ عظة ما، أياً كان مقدارها، ممّا شهدته تونس ومصر من هزّات شعبية كبرى، كان للتدوين الإلكتروني والمواقع الاجتماعية أثر جلي حاسم في اندلاعها؛ فيأمر زبانيته بإصدار حكم مخفف على صبيّة لم تبلغ العشرين بعد، وليست سوى مدوّنة في نهاية المطاف. وهذا الفيلسوف الدجال، الذي تفاخر قبل أيام بأنّ نظامه حصين ضدّ الاحتجاج الجماهيري، محصّن ضدّ "الميكروبات"، وأنّ نقص الشفافية هو مصدر اعتلال الأنظمة العربية... لم يتردد في تسليط بلطجيته على صبايا وشبّان كانت كلّ جريمتهم أنهم تجمعوا، بالعشرات وليس بالمئات، في ساحة دمشقية، حاملين الشموع وحدها، تضامناً مع الإنتفاضة المصرية. كما لم يتحمّل عبقري الإصلاح الكاذب هذا أن تتمّ مراسم دفن السينمائي السوري الكبير عمر أميرالاي دون رقابة خانقة من البلطجية أنفسهم، ودون إجراءات هستيرية لمنع التصوير، حتى بالهواتف المحمولة.
وقبل اقتياد الملوحي إلى محكمة أمن الدولة، مكبّلة اليدين ومعصوبة العينين حسب رواية وكالة أنباء رويترز، كانت الصبية قد خضعت لأشكال شتى من المهانة، والإذلال، وبثّ الإشاعات (الحقيرة، المنحطة، التي ابتدعها وأدار طرائق نشرها الفرع 285 التابع لإدارة المخابرات العامة، والتي لم تكن حكاية التجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية أشدّها وطأة، بل كانت الأقلّ جرحاً... على بشاعتها!). كما تعرّضت أسرتها إلى شتى الضغوط، وأقصى التهديد، حتى بلغ الأمر بوالد الصبية أن أدلى بتصريح صحفي قال فيه إنّ ابنته ليست موقوفة بسبب ما كتبته في مدوّنتها، بل لأنها... تخابرت مع جهة أجنبية! لم يطق رأس النظام (وهو الذي قُدّم في صورة "فتى الإنترنت المدلل" خلال أشهر تدريبه لوراثة أبيه) أنّ المواقع الاجتماعية، وعشرات منظمات حقوق الإنسان الدولية والعربية، تبنّت قضية الملوحي، فطاش صوابه، وأوعز باعتماد خيارات الحقد القصوى.
فأيّ قوّة عظمى هي أمريكا هذه، التي تجنّد جاسوسة في سنّ 17 سنة؟ وأيّ أسرار يمكن أن تجمعها الصبية؟ وما الملفات التي ما تزال خافية على واشنطن؟ وبعد أن تحلّق القاذفات الإسرائيلية فوق قصور آل الأسد، وتقصف مواقع في العمق السوري، ويسقط ضحية الاغتيال المباشر رجال من عيار عماد مغنية في قلب العاصمة السورية، أو العميد محمد سليمان على شواطىء طرطوس، إلخ... إلخ... أي معلومات "خطيرة" و"حساسة" كانت الصبية سوف تجمعها، وتبيعها إلى واشنطن؟ وهل ثمة مستوى أشدّ ابتذالاً وبذاءة وانحطاطاً، يمكن أن يبلغه هذا النظام، في هذه الفترة بالذات من تاريخ الوعي العربي؟
ولو افترض المرء، جدلاً، أنّ الصبية وقعت ضحية إغواء ما، أو ارتكبت زلّة تبرّر للنظام اختلاق الأكاذيب وتلفيق الاتهامات؛ أليس من حقّها، وحقّ عائلتها، وحقّ سورية بأسرها، أن تُعرف التفاصيل... كلّ التفاصيل؟ وكيف يمكن لرأس النظام أن يتشدّق حول الشفافية، والصبية جرى اقتيادها معصوبة العينين مكبّلة اليدين إلى محكمة قراقوشية، ولم يُسمح بالدفاع عنها إلا لمحام واحد، بصفة "مسخّر"، ولم تُمنح حتى أمّها فرصة حضور المحاكمة؟ وإذا كان قضاة النظام على ثقة من صحة الإتهامات التي يكيلونها للصبية، فما الذي يكبّلهم عن إعلان الأدلة على الملأ، في محاكمة علنية؟ وما الذي يعصب عيونهم، ويربط ألسنتهم؟ أليس النشر في صالحهم، إذا كانوا على هذه الدرجة من الوثوق؟ وما دامت المحكمة تتبجح بانتهاج "العدل" وتطبيق "القانون"، فلماذا يجري التكتم حتى الساعة على مكان سجن الملوحي، فلا يُعرف إذا كانت في سجن صيدنايا، أم في سجن دوما، أم في أحد أقبية اللواء علي مملوك؟
محزن تماماً، في الجانب الآخر من المأساة، أنّ بعض السوريين، من غير أصدقاء السلطة، ومن المشتغلين بقضايا حقوق الإنسان، وحتى بعض معارضي النظام، وقعوا على نحو أو آخر في تقصير فادح بحقّ قضية الملوحي، في المستوى الحقوقي والمدني المحض أوّلاً. ثمة مَنْ اشترى، في قليل أو كثير، الإشاعات التي بثّتها السلطة حول الملوحي؛ وثمة مَنْ اعتبر أنّ ما وراء الأكمة قد يكون أدهى ممّا يلوح في الواجهة، خاصة وأنّ المماحكة اشتدت بين رأي ورأي، فطمست جوهر المسألة؛ وثمة مَن اعتبر أنه، في هذه اللحظة، لا يستطيع حسم أمره؛ فكان الصمت المطبق هو مآل السلوك في الحالات مجتمعة.
وكان محزناً أن يجد المرء سوريات وسوريين يتظاهرون في العاصمة الفرنسية باريس، على سبيل المثال، لصالح تونس ومصر، وينشطون أكثر فاكثر على المواقع الإجتماعية ضدّ نظامَيْ زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وذاك أمر حميد بالطبع، لا يُعاب البتة؛ ولكنهم يلتزمون الصمت التام إزاء استمرار اعتقال الملوحي، ولا يشاركون في أدنى اعتصام دفاعاً عنها، ويتجاهلون أمرها في المواقع الاجتماعية، أو يتحاشون الخوض في تطوراته؛ وهذا هو العيب والقصور. كانت الحال انعكاساً لهذا أو ذاك من مظاهر أمراض المعارضة السورية، بالطبع؛ وكانت مؤشراً على كثير من الروح الأحادية، ومزاج الهواة، في حسن أو سوء استغلال تكنولوجيا الإنترنت والاتصالات. لكنّ الحال، بمعزل عن هذا وذاك، كانت تنطوي على طراز من الإستقالة الأخلاقية، وليس السياسية فقط، في قضية بدا الخفيّ الملتبس فيها أقلّ بكثير من ذاك الواضح الجلي، على الأصعدة الحقوقية والمدنية تحديداً.
والآن، وقد حُكم على الصبية بالسجن خمس سنوات، أليس جديراً باللواتي والذين لاذوا بالصمت ـ أياً كانت ذرائعهم، وسواء اتفق المرء معها أم اختلف ـ أن يرفعوا الصوت عالياً، مطالبين بفتح الملفّ، ونشر "الحقائق" و"البراهين" و"الشواهد" التي استند إليها جهابذة محكمة أمن الدولة، كاملة دون نقصان؟ أليس إمعان السلطة في إبقاء الملفات طيّ الكتمان، هو الدليل الأوّل والأكبر على بطلان الادعاءات، وعلى ركون السلطة إلى أرذل ألاعيب التلفيق والكذب والفبركة، وعلى إمعان رأس النظام شخصياً في توليد أصناف أخرى من الميكروبات، فوق تلك التي تعجّ بها مستنقعات نظامه، العكرة أصلاً، الموبوءة الملوّثة؟