لقد بينت هذه الثورات أن وعي الجماهير أعلى بكثير من وعي الأنظمة والسلطات التي اعتقدت على مدى العقود الماضية أنها استطاعت أن تحتوي حركة الشعب وتهجنه وتضعه في المستودعات بعد أن نزعت عنه مواطنته وحولته إلى رعية، وحرمته وسلبت منه حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، كما أظهرت أيضاً أن وعي الشعب أعلى من وعي النخب والحركات السياسية، وحركة الثقافة التي تقودها، والتي ظهرت مؤخراً وكأنها استقالت من الجماهير، بعد أن عجزت عن صياغة الخطاب السياسي والفكري الذي يلبي طموحها ويؤطرها أو يحوز على ثقتها. بل تعالت عليها عندما اعتبرت نفسها الطليعة الواعية والمناضلة وأعلى أشكال تنظيمها.
هذا التوصيف هو نتيجة لطبيعة الدولة القطرية التي لم تستطع أن تتبلور وفق التصنيف الحديث للدولة فبقيت أصغر من الدولة بمفهومها الحديث وأكبر من الولاية ، بينما انحدرت السلطة القطرية التي قادتها إلى مستوى هو أدنى بكثير مما كانت عليه في العصور الغابرة ، رغم مظاهر التقدم والتطور التي تظهرها ، والتي لم تكن سوى قشرة سطحية ليس لها فعالية في خدمة المجتمع .
لقد شكلت الدولة القطرية العربية حالة فريدة بين الدول لأنها تعيش في تناقض واضح بين ميلها نحو الاستقلالية وتبنيها برامج تتفق مع هذا الميل ، وبين انتمائها الجغرافي والشعبي والسياسي إلى وسط أوسع هو الوطن العربي . والأمة العربية وإذا كانت قد سعت لتعزيز استقلاليتها ، إلا أنها عجزت عن تحقيق هذه الاستقلالية بسبب ضغط الانتماء القومي والمسؤوليات القومية التي يفرضها الواقع عليها قسراً والذي لا تستطيع تجاوزه ، وهذا ما يفسر الاهتمام والتأييد الواسع الذي حظيت به ثورات الشتاء من الشعوب العربية وإن كان هذا التأييد لم يصل للمستوى المطلوب .
ولأن الهاجس الأول للسلطة القطرية كان ولا زال استمرارها في الحكم ، فقد اعتمدت على ممارسة أوسع أشكال الاستبداد والقمع ، بعد أن أمنت علاقاتها مع قوى الهيمنة العالمية ، لتضمن دعمها أو صمتها، وأحاطت نفسها بشعبية مزيفة بتشكيلها أحزاب ومنظمات لم يكن لها وجود أصلاً فساهمت من خلالها في إفساد الأجيال وتغييب دورهم . وأقامت لها مؤسسات أمنية مختلفة الأشكال والأهداف ، ومطلقة الصلاحية تؤمن لها الحماية الداخلية ، ووضعتها فوق كل المؤسسات الأخرى بما فيها مؤسسة الجيش الذي حولته لتابع لهذه المؤسسة بدلاً من تعزيز دوره في حماية الوطن . ولضمان ولاء هذه المؤسسات فقد أفسحت لها المجال واسعاً أمام ممارستها النهب والاستغلال والفساد والإفساد . لكنها نسيت أن هذه المؤسسات حزبية كانت أم أمنية و التي تبحث عن مصالحها لن تصمد أمام الهزات الشعبية إن حصلت ، لذلك ومع التحرك الشعبي الأول التي تعرضت له السلطة في تونس ثم في مصر، اختفت عناصر هذه المؤسسات من الوجود وتركت رؤوس السلطة تواجه مصيرها بنفسها ، ففي تونس لم يكن عدد أعضاء الحزب الحاكم يقل عن المليون منتسب ، وفي مصر يقال أن عدد المنتسبين للحزب الوطني يصل لأربعة ملايين منتسب ، مع مؤسسة أمنية هي من المؤسسات الكبرى في العالم ، وفي الحالتين لم يظهر لهم وجود يذكر بل أن بعضهم ترك هويته وبينهم عناصر قيادية بارزة.
هذه السلطة لم تستفيد من تجارب الأنظمة التي سبقتها في دول أخرى، وخاصة دول الكتلة الاشتراكية التي حكمت بنفس الطريقة ثم انهارت ، وأبرز أمثلتها نظام رومانيا ورئيسها شاوشيسكو الذي لم يجد مكاناً يدفن فيه بعد أن قتله شعبه . لقد مضى على هذه الحادثة عشرين عاماً كانت خلالها أغلب رموز الأنظمة العربية موجودة ولا زالت ، وهي تعلم أن تطور العلم وثورة الاتصال لم تعد تترك شيئاً مخفياً أو منسياً .
هذه السلطة التي كرست تجزئة الأمة ، جعلت الدولة تتماهى فيها ، فحولتها لملكية خاصة تتصرف بها كما تشاء فاحتكرت السلطة ، ونهبت الثروة ، واستأثرت بها وجعلتها وسيلة لتوسيع دائرة الولاء حولها ، وحصرت بها الأعمال والخدمات توزعها لمن تشاء ، وجيرت الإعلام لخدمتها، وقمعت المعارضة وأفقدتها دورها وشتتها في أنحاء المعمورة ( الآلاف من المعارضة التونسية عادوا إثر رحيل بن علي إلى وطنهم بعد أن أمضوا سنوات طويلة خارجه دون أن يكونوا في بال أحد ). وفككت المجتمع، ودفعت بالمواطنين إلى الفقر والجوع ، يبحثون عن خلاصهم الفردي بعد أن نزعت السياسة من المجتمع وجعلتها من المحرمات المرعبة للشعب.
ومع كل مظاهر القوة التي ظهرت بها هذه السلطة أمام شعبها ، فقد عجزت عن مواجهة الاستعمار وحماية أراضي الوطن ووحدته ، فخسرت فلسطين، وركبت موجتها لاستغلال مشاعر الشعب، وفقدت جزءاً من أراضيها، أو فقدت السيادة عليها حيث لا زالت أقسام من أراضي سيناء محظورة على الجيش المصري من دخولها بموجب اتفاقية كامب ديفيد، التي شكلت إهانة للشعب المصري بعدده وتاريخه ومكانته أمام العدو الإسرائيلي، العدو الوطني لمصر والعدو القومي للأمة . لكن الإهانة الأكبر للشعب المصري كانت بدخول السلطة المصرية وسيطاً بين إسرائيل والفلسطينيين لحل القضية بدلاً من تحمل مسؤولية تحريرها وعودة أبنائها .
كما عجزت هذه السلطة عن تحقيق تنمية حقيقية مستغلة استخدام الموارد المتاحة في هذه التنمية لتوفير حياة معيشية لائقة للشعب تمنع عنه الفقر والحاجة بل والجوع ، ولم تكن هذه الموارد قليلة، لكنها وضعت في أيدي معدودة واستفادت من قسمها الأعظم ، نسبة قليلة من السكان . أما البقية فقد عاشت على هامشها، وانطبق ذلك على كل الدول العربية بما فيها الدول فائقة الغنى. وهكذا بقيت الأمية والبطالة والفقر مستشرياً في هذه الدول بسويات مختلفة ، وبقيت الفئة الحاكمة ومن حولها يستأثرون بكل شيء، بينما لا يملك الشعب شيئاً، وهذا ما عزز المشاعر الطبقية لدى الفقراء وولد لديهم النقمة و الغضب.
( عندما انهارت الكتلة الاشتراكية اعتقد البعض أن الصراع الطبقي قد انتهى لصالح العولمة، وقتها قلنا " مها كان وضع الصراع الطبقي فإن المشاعر الطبقية بين من يأكلون ومن لا يأكلون تبقى حية و لا تزول ، ولا بد أن تتحول يوماً لعمل ثوري" ).
ومن المفارقة أن هذه الفئة بدلاً من استثمارها لأموالها في بلدانها وامتصاص بعضاً من النقمة الشعبية ابتعدت تستثمر قسمها الأعظم خارجاً.
كل هذه العوامل جعلت المواطن العربي ينكفيء على نفسه وينفس عن غضبه بحركات انفعالية فهو يقوم بحرق أعلام الدول المعادية في أي مشاركة سياسية له تعبيراً عن عجزه ، أو تخريب المنشآت العامة إذا أتيحت الفرصة له انطلاقاً من شعور مكبوت بأنه لا يملكها ، حتى جاءته الفرصة ليعبر عن غضبه بحرق نفسه بعد أن شعر أن لا قيمة لها طالما أنه لا يستطيع أن يحصل على الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والمعيشة اللائقة.
إذن فالمشهد السياسي في الدولة القطرية العربية أصبح مؤلفاً من سلطة قطرية تملك وسائل القوة والهيمنة إضافة للثروة ، تحيط بها دائرة من الولاءات استفادت منها، ومعارضة ضعيفة ومهمشة ، وتيارات إسلامية صاعدة وعاجزة عن تبني برامج عصرية ، ومعارضة صامتة كانت العامل الذي فجر ثورات الشتاء . والتي جاءت نتيجة طبيعية لمنطق التاريخ ، وهي لا تختلف عن الثورات الكبرى منذ ثورة العبيد في روما حتى الثورة الفرنسية أو الروسية أو الصينية .. وغيرها والتي فجرتها في البداية الحركات الشعبية العفوية قبل أن تتلقفها الفئات والأحزاب وتعمل على قيادتها، أو تحدد مسارها. لكنها من حيث النتائج فقد أسست لوعي ومفاهيم سياسية وفكرية تاريخية هامة جداً. لكن طبيعة السلطة القطرية لم تستوعب هذا الدرس وبدلاً من الاستماع لمطالب، الشعب استخدمت في مواجهتها لتحركاته نفس الأساليب التي دأبت عليها بعد أن سخرت منها في البداية واستصغرتها ، أو وصفتها بالرعاع والبلطجية والظلامية واللصوص، معتقدة أن استخدام القوة أو ممارسة ثقافة التخويف ستجعل هذه الثورات تنسحب وتتراجع .
ولعقد المقارنة نقول . ( كانت ثورة الطلاب للمطالبة بالإصلاحات في فرنسا عام 1968 كافية لجعل الجنرال شارل ديغول يعتزل الحكم بعد أن شعر أنه عاجز عن تحقيق تلك المطالب، فحاز على احترام وثقة شعبه به، بينما تعالى الرئيس المصري على مطالب الشعب، وتغافل عنها.
وفي عام 1967 وبعد هزيمة حزيران عندما تقدم جمال عبد الناصر باستقالته متحملاً مسؤولية الهزيمة ، خرجت مصر عن بكرة أبيها تطالبه بالعودة ، بينما خرجت مصر الآن عن بكرة أبيها تطالب مبارك بالرحيل وهو متمسك بالسلطة ).
أما الحركة السياسية وحركة المثقفين وفي الوقت الذي كان بعضها يعادي نظامه ، كان هذا البعض ينظر بعين الرضى للأنظمة في الدول العربية الأخرى ، والبعض الآن يبدي مخاوفاً من عشوائية هذه الثورات والمخاطر التي يمكن أن تقع فيها أو تقود إليها ، " لقد وصفت الثورة الفرنسية بأنها الثورة التي أكلت أبنائها، لكن النتائج التي خلفتها تفوق بكثير الخسائر التي واجهتها ولن تكون ثوراتنا أقل عطاءً “.
لقد عادت الشعوب العربية لتعمل بمنطق التاريخ ، وإذا ما بقيت السلطة القطرية متجاهلة لهذه الحقيقة سيبقى مأزق الدولة القطرية قائماً وستبقى انعكاساته خطيرة على الأمة .
ثورات الشتاء العربية جاءت في شتاء قل فيه المطر لكنها أنتجت ربيعاً عربياً مزهراً سيعيد للأمة كرامتها ونهضتها ويفتح الطريق لها نحو وحدتها.