Wednesday, March 2, 2011

من ميدان التحرير إلى ساحة الجامع الحسيني : توجان فيصل


سقوط الدول يحسم بسقوط عواصمها, ومثله نشوء الدول أو تحريرها، وفي كل أمر سياسي ذي شأن يشار إلى الدولة باسم عاصمتها لأنها مكان صنع القرار السياسي. ولا تنقص -بل تتأكد وتتكرس- تلك الصفة السياسية السيادية للعاصمة في الدول الاتحادية, أي أن القرار السياسي السيادي يصبح أكثر مركزية. ولهذا تفصل العاصمة عن أي ولاية أو إقليم كما حصل في أميركا، حيث منطقة واشنطن لا تعتبر جزءا من أي ولاية بما فيها تلك التي تقع واشنطن ضمنها جغرافيا.

قبل قيام إمارة شرق الأردن, لم تكن الكيانات التي قامت على ذات مساحة الأرض دولة موحدة مستقلة, بل كانت المنطقة بكاملها تتبع دولا كبرى. وقسمة التبعية الإدارية للأردن كانت تجري أفقيا في الغالب. وفي العهد العثماني كان "سنجق الأردن" يشمل شمال الأردن (الحالي) وشمال فلسطين, و"سنجق فلسطين" يضم جنوب الأردن وجنوب فلسطين. ومثل هذه الحالة تنتج مدنا محورية، ولكنها لا تنتج هويات ف

"
هوية الأردنيين منذ الفتوحات الإسلامية أصبحت عربية سورية (بمعنى سوريا الكبرى) مسلمة مسيحية, باعتبار أن الأردن لم يعرف التمييز الديني لكون أرضه مهد المسيحية
"
وهوية الأردنيين منذ الفتوحات الإسلامية أصبحت عربية -سورية (بمعنى سوريا الكبرى) مسلمة- مسيحية, باعتبار أن الأردن تحديدا لم يعرف التمييز الديني لكون أرضه مهد المسيحية. وبهذه الصفة القومية الأكبر، كان زعماء الأردن يشاركون في أحداث المنطقة بدءا بمؤتمراتها وانتهاء بثوراتها.

وحتى نهايات القرن التاسع عشر, كانت أبرز المدن الأردنية عجلون والكرك ومعان. ومنذ العام 1878 عام وصول أول أفواج الشراكسة المهاجرين واستقرارهم في وادي عمان القفر الذي لم يكن يحوي سوى آثار ممالك وإمبراطوريات قديمة, بدأ ظهور عمّان كمدينة جديدة أصبحت منطقة جذب لسكان آخرين من المحيط العربي, فنمت بسرعة لتصبح مركزا تجاريا وسياسيا.

وعند قدوم الهاشميين في بواكير الثورة العربية الكبرى, مدفوعين أيضا بنزاع مسلح كان قائما مع آل سعود وباتت نتائجه تصب لصالح السعوديين, وجدوا في عمان ملاذا آمنا وبيئة أمثل لعاصمة حضرية يجتمع فيها ويجمع عليها سكان البلاد دونما أي منازعات.

فلم يكن لدى أي من الأردنيين في محافظاتهم ومدنهم الرئيسية أي مشكلة مع تحول هذه المدينة الحديثة نسبيا إلى عاصمة. والثورات أو حركات التمرد التي قامت بها بعض العشائر (العدوان والشهوان والشريدة), لم تكن ضد أهل عمان ولا جوبهت بهم, بل كانت موجهة ضد الأمير من طرف من اعتبروا أنفسهم أحق بحكم بلادهم, والتصدي لها تم من قبل القوات البريطانية.

وسرعان ما أصبحت لساحة الجامع الحسيني -باعتبارها قلب عمان- قيمة معنوية، مثلها مثل ميدان التحرير في القاهرة، فهي ساحة كانت تشهد أهم أنشطة البلد التجارية والسياسية واحتفالاتها العامة, بل إن جميع مزادات البيع العام كانت تجري فيها, وحتى أحكام الإعدام كانت تنفذ فيها (لحين سني طفولتي) يوم الجمعة الذي يشهد -لأغراض مختلفة- حضور أعداد غفيرة من الأردنيين من مختلف مناطق المملكة، بما فيها مناطق نائية في البادية.

وحين قرر زعماء الأردن عقد "مؤتمرهم الوطني الأول" عام 1928, أي بعد سنوات قليلة من قيام الإمارة, بمبادرة منهم ودون إشراك الأمير وحكومته, تنادوا إلى الاجتماع في عمان وتحديدا في أحد المقاهي المطلة على ساحة الجامع الحسيني. ومن المهم تسجيل حقيقة أنهم لم يأخذوا أي إذن رسمي من أي جهة لعقد اجتماعهم ذاك.

والميثاق الوطني الذي أصدره المؤتمرون حينها, ما زال يقف ليومنا هذا وثيقة تلخص مطالب الشعب المتحضرة المتقدمة لدرجة تصلح فيها أن ترفع الآن في الاعتصامات التي تجري كل جمعة عند الجامع الحسيني وفي مختلف مدن وقرى المملكة.

ومن هنا لا يستغرب أن تتحول عمان تلك (وهي ما أصبح يسمى الدائرة الثالثة في عمان) إلى أهم دائرة انتخابية على مستوى المملكة, بحيث تؤشر نتائج انتخاباتها على الخارطة السياسية للشعب الأردني. فلم يكن يجرؤ على خوض انتخاباتها سوى كبار سياسيي البلاد من مختلف مناطقها (إلى حين تغيير تدميري تعرضت له سنأتي إليه)، ولم تكن الحكومات تجرؤ على تزوير مكشوف فيها, ولهذا سميت "دائرة الحيتان".