أكتب هذه السطور وأخبار مدينة درعا السورية، عاصمة المحافظة ودرّة منطقة حوران العريقة، تخضع لحصار أمني ـ عسكري شديد، يُخضع الداخلين إليها، مثل الخارجين منها، لعمليات تفتيش وتدقيق لا ينقصها، كما يتندّر بعض أهلنا الحوارنة، إلا إبراز جواز السفر و... تأشيرة الدخول! وكما بات معروفاً الآن، شاءت أقدار درعا، وشرف بناتها وأبنائها، أن يسقط من بين صفوفهم أوائل شهداء الإنتفاضة السورية؛ وأن يختار لهم بغاة النظام وأبواقه تسمية كنّا نظنّ أنها صارت في مزبلة التاريخ، إلى غير رجعة: "المندسّون"... على مَن؟ من أين؟ كيف؟ ولصالح مَن؟
كذلك تشرّفت حوران (وليس في استخدام هذا الفعل أيّ ميل للتفاخر المجاني، بصرف النظر عن المفارقة المحزنة) بأنها كانت أولى المدن السورية التي أُذيقت الغاز المسيل للدموع، بعد الرصاص الحيّ، بأيدي وحوش السلطة الكواسر. ذلك لأنّ حوران، بادىء ذي بدء، سيّرت أكبر مظاهرات الإنتفاضة السورية حتى الساعة، واستحقت بالفعل لقب "سيدي بوزيد سورية"؛ كما أنها، من جانب ثانٍ، ردّدت تلك الشعارات، الفصيحة البليغة الشجاعة، التي توجع النظام أكثر: بعد الهتاف ضدّ رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وتمساح النهب والفساد، ذكّر المتظاهرون بأنّ الخائن هو ذاك الذي يقتل شعبه.
وإذا كان مفهوماً أن يتأثر تلامذة حوران الصغار بمشاهد ساحة التحرير في القاهرة، فيردد بعضهم شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ويكتبه البعض الآخر على الجدران (فتعتقلهم السلطة لهذا السبب، وهم في الاحتجاز منذ قرابة شهر!)؛ فهل يحتاج شباب حوران وشيبها إلى "مندسّين" يحرّضونهم على طلب الحرّية والهتاف ضدّ الفساد والفاسدين؟ يحزّ في النفس على نحو مضاعف، وهنا بعض المفارقة المأساوية أيضاً، أنّ "بطولات" كواسر النظام ضدّ المواطنين العزّل، واستخدام الرصاص الحيّ، كانت تجري على مبعدة كيلومترات قليلة من أرض الجولان المحتلة، حيث لا يتجاسر فرسان بشار الأسد على استخدام بندقية صيد.
ذلك لأنّ حوران صنو الجولان، وليست الجيرة وحدها صانعة أواصر القربى والتواصل، بل التاريخ القريب مثل ذاك السحيق، على مرّ العصور، وفي مستويات إنسانية وثقافية وأنثروبولوجية بالغة العمق وضاربة الجذور. ولا يُلام الواحد منهم، في حوران إسوة بالجولان، حين يحلو له اقتباس هذين البيتين من النابغة الذبياني، على سبيل المفاخرة:
بكى حارثُ الجولان من فَقدِ ربِّهِ/ وحَورانُ منهُ موحشٌ متضائِلُ
فآبَ مضلّوه بعينٍ جليّةٍ/ وغُودر بالجولان حزمٌ ونائلُ
إذْ لعلّ هذه القصيدة البديعة ـ التي ترثي أحد أمراء الغساسنة العرب، ويقول مطلعها: "دعاكَ الهوى واستجهلتكَ المنازل/ وكيف تَصابى المرء والشيب شامل" ـ هي الأجمل في الإشارة إلى الجولان وحوران معاً، وذلك رغم وجود العديد من الأبيات الأخرى الجميلة التي قالها امرؤ القيس، وحسان بن ثابت، وأبو تمام، والفرزدق، والراعي النميري وسواهم. والحوارنة الجولانيون، مثل الجولانيين الحوارنة، على حقّ في ترجيح كفّة النابغة، لأنه يتحدّث عن حارث الجولان (إحدى القمم فيه)، وحوران (المنطقة الجارة)، وحزم ونائل (من قبائل العرب التي كانت تسكن الجولان)، فيمزج المكان بالزمان والتاريخ بالجغرافيا، ويشدّد تلقائياً على عراقة تلك الهضاب والبطاح والذرى.
من جانب آخر، حين يرفع متظاهرو حوران شعارات تخصّ مطالبهم المحلية، إلى جانب المطالب الوطنية التي تشمل سورية بأسرها، فلأنّ هذه المحافظة الأصيلة ظُلمت مراراً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً أيضاً، رغم أنها خيّرة معطاءة؛ ليس في إنتاج الحنطة الحورانية المميّزة فحسب، بل أيضاً في إنتاج الشعير والزيتون والعنب والخضروات واللوزيات. وكان الشاعر الأردني عرار قد امتدح خبزها القمحيّ في بيت شهير: "فلا عليكَ إذا أقريتني لبناً/ وقلتَ خبزتنا من قمح حوران".
أتيتُ على هذه الأسباب حين سألني صحافي فرنسي صديق: لماذا درعا، بالذات؟ وكان من باب الإنصاف أن أضيف عامل جيرتها مع السويداء، المحافظة التي لا تقلّ عراقة، وكانت مقرّ أركان المجاهد سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية الكبرى، 1925، ضدّ الإنتداب الفرنسي. وأضفتُ بأنّ المنطقة خضعت لقوى إقليمية كبرى قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع، وقلعة بصرى شاهدة: بناها الأنباط، ثم هدمها الرومان، وأعاد الأنباط بناء مسرحها الكبير، حتى اتخذ الأمويون من مدرجها نواة لبناء القلعة. كذلك احتضنت سهول حوران معركة اليرموك الشهيرة، سنة 636 م، بين المسلمين والروم، وانتهت إلى هزيمة أقوى جيوش العالم آنذاك، ومنها سوف يطلق هرقل كلمته الجريحة الشهيرة، حين غادر إلى غير رجعة: "السلام عليك يا سورية، سلاماً لا لقاء بعده، ونِعْمَ البلد أنت للعدوّ وليس للصديق، ولا يدخلك روميٌ بعد الآن إلا خائفاً".
فكيف للنظام أن لا يحاصرها، خائفاً ومستشرساً في آن معاً؟ وكيف لا تتخذ درعا، وقفة كرامة بعد أخرى، يوماً بعد يوم، صفة "سيدي بوزيد سورية"؟ وكيف لا نغبط أهلها، الفرسان الأصلاء بحقّ، حين يهتفون: من حوران هلّت البشاير؟ بدأتُ هذه السطور بأخبار حصار درعا، وأجدني أختمها برسالة إلكترونية عاجلة، وردتني للتوّ، تفيد بأنّ مآذن المساجد في المدينة تطلق نداءات لإسعاف المصابين، بعد اندلاع تظاهرات جديدة.
ما أبعدَ ما فات، وما أقربَ ما يأتي!