ها نحن نتنفس الصعداء بعد عقود من المحن والمآسي دفعت حتى الخلصّ من أبناء الأمة لليأس ، والحديث عن خروج العرب من التاريخ ، والبحث عن مخبأ آمن في جحور إقليمية ، أو طائفية ، أو مذهبية ، أو قبلية ، أو عشائرية ، لم تترك مكاناً للمدنية العربية ، وحضارتها ، استوى على بوابات تلك الجحور وعروشها، الطغاة ومصاصي الدماء والأفاقين والمتألهين والمؤلهين والمهرجين واللصوص والقتلة والمعتوهين يؤمنوّن لاحتكارات قوى المهيمنة الدولية الراعية لعروشهم نهب الثروات العربية أكثر مما كانت جيوش المستعمرين تحققه بالاحتلال المباشر مقابل تأمين مظلة حماية دولية للطغاة ، والتستر على ممارساتهم القمعية والوحشية ، وعلى مافيات الفساد والنهب العائلي للطغاة حيث تبيّن أخيراً أن ثروة فرد واحد من عائلة أي طاغية تكفي ليعيش الشعب العربي بكرامة ، وفي ظل ظروف إنسانية مناسبة خارج بيوت الصفيح والمقابر والعشوائيات وشوارع البطالة وزنازين المخبرين ...
قد يواجهنا اعتراض مشروع ، يقول : إنكم تحتفلون بنصر لم يتحقق بعد ، وبتغييّر إيجابي لظروف مأساوية لم ينبلج فجره بعد ، فمازالت عائلة القذافي تهاجم عرب ليبيا ، وتحاصرهم من الجهات الأربع ، وتعمل فيهم تقتيلاً ، بالأمس فقط أطل عليكم أحد أبنائه ليقول علناً : "طز فيكم أيها العرب" ، فماذا كان جوابكم ؟ هل دبّت النخوة في عروقكم ؟ ، هل ثرتم لكرامتكم المجروحة ؟ ، ثم ، هاهو طاغية اليمن يطلق الغازات السامة على الأخوة والأبناء ، في ميادين الثورة والحرية ، ماذا تفعلون أكثر من الفرجة ، وإحصاء أعداد الشهداء ؟ ، وهاهي إرهاصات ثورة الحرية في الجزيرة العربية ، والبحرين تتعثرّ بالفتن المذهبية بين ...وبين ... ، أين أنتم من عقد المواطنة الذي صاغه جدكم محمد بن عبد الله ، منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام ، في يثرب بين مواطنين متساوين : مهاجرين وأنصار ، مسلمين ونصارى ، يهود وصابئة ، مشركين وقبائل وعشائر ؟ ، هل قرأ أحد منكم ذلك العقد "الصحيفة" ؟ ، حيث جاء فيها : (... إن المؤمنين المتقين على من بغى منهم ، أو ابتغى دسيعة ظلم ، أو إثم ، أو عدوان ، أو فساد بين المؤمنين ، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم ... ، وأن ذمة الله واحدة ، يجير عليهم أدناهم ... وأن النصر للمظلوم ... وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ... وأن البر دون الإثم ، لا يكسب كاسب إلا على نفسه ... وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره ، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم . وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم ... ) ، هل يعقل بعد هذا أن نجد مرجعية شرعية للفتن التي يتم افتعالها بين المواطنين ...؟ ، ليس بين الأديان ، وحسب ، وإنما داخل مذاهب الدين الواحد ... ؟ ، ليس بين الأقاليم العربية ، وحسب ، وإنما داخل الإقليم الواحد ...؟ ، ليس بين القبائل والأثنيات والأكثريات والأقليات ، وحسب ، وإنما داخل كل واحدة منها على حدة ...؟؟؟ ، وقبل ذلك وبعده : من تخدم تلك الفتن إلا الطغاة في الداخل والغزاة من الخارج ...؟ .
( 2 )
نعم ، هناك مخاوف ، وهناك أسئلة ، وهناك مخاطر ، والصحيح أيضاً أن المعارك في ميادين التحرير العربية لم ُتحسم بعد ، وبالتالي من المبكر أن نحتفل بأمة عربية قد استعادت كرامتها وإرادتها وقرارها وسيادتها على أراضيها وثرواتها ، لكن ، وفي الوقت ذاته لا يمكن تجاهل ما حصل ، ويحصل في وطن العرب منذ ثلاثة أشهر ، أحداث تتوالى ، وتتصاعد مع كل فجر ، لم ُتحسم المعركة بعد ، نعم ، لكن الأمة الآن في ساحة المعركة ، وهذا في حد ذاته حدث جلل ، فقد كانت الأمة العربية قبل ذلك خارج كل معركة ، كتبوا عن أمة غير موجودة أصلاً ، والذين كانوا قد اعترفوا بوجودها تحدثوا عن خروجها من التاريخ ، وبلغ الفجور حداً لا يمكن تحّمله في نبش بدائل وهويات دينية وطائفية ومذهبية وعرقية وقبلية وإقليمية يشرف عليها دهاقنة نظام عالمي عنصري ظالم ، يوفرّ لها مظلة دولية ، ويمنحها صفة دولية يسميها "شرق أوسط" ، وإذا ضاق بها القديم يبحث لها عن شرق أوسط جديد ، المهم أن الغاية المتفق عليها بين طغاة الداخل وغزاة الخارج كانت وما تزال أن لا تستعيد الأمة العربية إرادتها ، وبالتالي تبقى مستلبة بلا قرار ، فيستقرّ الطغاة على عروشهم ، ويطمئن قراصنة الخارج على مصالحهم ، والغاية كانت بالنسبة إليهم تبرّر الواسطة ، وبناء عليه لم يتم تحريم أي سلاح لتحقيق تلك الغاية من أول القمع والقتل والتوحش ، إلى آخر المذابح ، وهكذا شاهدنا أساطين الديمقراطية في العالم يتسابقون لكسب ود الطغاة ، ويكيلون المديح للمستبدين ، وهكذا أدت سنوات القمع المديدة إلى إخراج الأمة العربية من دائرة الصراع ، وتحويلها إلى ساحة يتصارعون فيها ، وعليها ، وينهبون ثرواتها... تلك كانت هي الحال .... الآن لم يعد الأمر كذلك ، الشعب العربي لم يعد يرتعب خوفاً من أجهزة القمع والقتل ، على العكس ، فالشعب بدأ يقتحم تلك الأجهزة ، بينما المخبرين والقتلة يرتجفون خوفاً ، الطغاة لم يعودوا بانتظار المسيرات المليونية التي تؤلههّم ، وإنما يبحثون عن مهرب من مسيرات لا يعرفون متى تنطلق ، ومن أين ، والهتاف : "الشعب يريد إسقاط النظام" ، كما أن مرتزقة الطغاة ومنافقيهم يبحثون عن مخارج ... وصكوك براءة من أسيادهم الطغاة ، وقوى الهيمنة الدولية التي كانت مطمئنة لمصالحها ، ومندوبيها متعهدي مصالحها من الطغاة في الوطن العربي ، فقدت هذا الإطمئنان الآن ، وبعد أن كانت تصنع الحدث ، وتقرّر من يحكم ، ومن لايحكم ، من يقرّر ، ومن لايقرر ، هي الآن تلاحق احداث يصنعها شباب عربي ينطلقون من حيث لايدري الذين اعتقدوا أنهم أدخلوا شعوب العالم في كمبيوتراتهم يحصون عليهم الأنفاس ، وبالتالي ، وللمرة الأولى ، نجدهم في حالة تخبّط ، لايجرأون على التدخل المباشر ، بينما تدخلهم غير المباشر تتجاوزه حركة الشباب .... هل كل هذا ، سواء مايجري في الوطن ، أو من حوله في العالم ، قليل ؟ ، ألا يحق لنا بعد ذلك أن نستعيد الحلم ؟ ، ثم من قال أن كل هذا السوء والتخريب والفساد والفتن والقمع والنهب والطغيان سيتم محو آثاره بين ليلة وأخرى ؟ ، هل يمكن لأحد في هذا العالم أن ينكر ، أن الأمة العربية باتت في ساحة المعركة طرفاً أصيلاً ، وأنها لم تعد جثة تنهشها الوحوش ، نقول ذلك ، ونحن لانقلل من إمكانيات القوى المضادة ، إنما بتنا أمام احتمال لم يكن موجوداً لدينا منذ عدة أشهر يتمثل في ان تأخذ هذه الأمة العربية مكانها الذي تستحق ي هذا العالم ، لاتعتدي ، وقادرة على صد العدوان ، لا أكثر من ذلك ، ولا أقل ... وهذا الحلم ليس بالقليل ، فهو بحد ذاته قيمة مضافة بالغة الأهمية ، يُنعش في دواخلنا إنسانية دافعنا عنها في مواجهة غيلان ووحوش وقتلة ... ، ولم نكن نحلم أنها ستشبّ ماردة ، نبيلة بعد كل تلك المحن البالغة القسوة والمأساوية ....( 3 )
قضية أخيرة ، كنت قد حسمت أمرها منذ سنوات عديدة عن علاقة الداخل بالخارج ، حيث تحدثت عن الدائرة المفرغة التي تحاول القوى المضادة لمشروع النهوض العربي حشرنا فيها ، والمتمثلة في قوى هيمنة دولية تتعاقد مع طغاة محليين يتعهدون مصالحها ، فتتعهد حماية طغيانهم ، وهكذا ... ، وقد بات من الثابت أنه عندما تتخلى القوى الخارجية عن طاغية فإنه يبحث عن بديل خارجي ، وبالمقابل عندما يفشل طاغية ، ما ، في حماية مصالح القوى الخارجية التي تتعهده ، تبحث هي عن بديل له .... وهكذا ... ، وبالتالي ، فإن المسألة ، كما هي فعلاً ، ليست في الاختيار بين الطغاة والغزاة ، وإنما في مواجهة الطغاة والغزاة معاً ، وفي الوقت ذاته ....